يكتسب كتاب (( التعليم في العراق – هبوط في الوعي الأجتماعي والثقافي والأداري – لمؤلفه الدكتور عبد جاسم الساعدي )) أهمية كبيرة ، وذلك لأهمية الموضوع الذي تناوله المؤلف – التربية والتعليم لدينا – وبسبب حاجتنا الماسة لهكذا بحوث ودراسات ومواضيع اذ نسعى للألتحاق بمسيرة الركب العالمي ومجاراة التطور والنقلات العلمية والثقافية والأجتماعية والسلوكية التي خطاها العالم المحيط بنا ، ونحن لازلنا نركن بملل وتكاسل في القاع ونندرج ضمن قوائم البلدان المتردية والمتخلفة ، ونتحمل من نتيجة ذلك شتى أنواع الأفرازات والأرهاصات والصراعات الأجتماعية والنفسية والسلوكية ، ونعاني تخلفا في نظمنا الأدارية وعقم وتردي في جدوى سعينا ونشاطنا الحياتي اليومي .
ان مايصح أن نطلق عليه (( أزمة التربية والتعليم )) لدينا هي الأساس والقاسم المشترك لكل أزماتنا المتشعبة والمتشابكة على جميع الأصعدة .
وأزمة التربية والتعليم هي (( أم )) الأزمات والمحن كلها . فبسببها حصلنا على ناتج اجتماعي وثقافي وسياسي واداري رديء وممزق ، وبسببها تطفو المحن فوق رؤوسنا وتتناوب علينا الصراعات والتقاطعات والغايات ويتم جرنا الى التشظي والعدم .
لقد تناول هذا الكتاب في الفصول التي بحثها بواقعية وعلمية تنم عن أفق وعلم ودراية وتجربة لدى المؤلف ، فجاءت غنية بالطروحات والمباحث العلمية الناتجة عن خبرة علمية وممارسة ميدانية فعلية استخلص منها الكاتب كتابه .
تطرق الدكتور عبد جاسم الساعدي الى (( فلسفة التربية والتعليم )) بأعتبارها ((مجموعة المعارف والمفاهيم والنظريات المنتظمة في اطار فكري شامل تقوم عليه المدرسة التربوية ومناهجها التعليمية ص7)) لتنتج مواطنا صالحا يتعايش
بأنسجام وفعالية مع محيطه ويتمكن من اداء دوره الوطني وينسجم مع معاني المواطنة الصحيحة . وان التعليم الحديث لايندرج ضمن اطار تلقين ثوابت نظرية سالفة وحشو مفاهيم ثابتة وانما يسعى الى خلق التوعية والمشاركة وتنمية القدرات العقلية والجسمية لدى الفرد وزرع القدرة والكفاءة (( النقدية )) لديه بما يمكنه من الأستيعاب والمحاورة والنقد البناء وبما يؤهله للأطلاع على تجارب الآخرين ونقدها والأستفادة منها .
وقد ركز الكاتب على ان التعليم يجب أن ينمو ويتطور بنمو وتطور الحياة والمحيط (( فالتعليم ليس حالة راكدة انه بناء تام يتصل بالتجربة والتدريب والأضافات ص10)) بما يؤهل الأفراد الى ممارسة وعي فكري يكون وسيلة لتكريس بنية مجتمعية حديثة تنسجم مع التطورات والمعارف . وقد أشار الكاتب الى كيفية توجيه العملية التربوية لدى المفكرين والمختصين العالميين ولدى قادة ومفكري الأشتراكية وغيرهم ، ودعا الى ضرورة تبني (( التربية النقدية )) بأعتبارها الوسيلة لتهيئة مجتمع كفوء يتمكن من قيادة وادامة نفسه مستقبلا . والتربية المدنية النقدية التي من ضمن تفاسيرها اثارة النقاش والتساؤل عن كل مايدور حولنا في اطار تربوي يستخلص التجارب والظروف والأسباب والحلول ويهيء لما هو أفضل كبداية لتحقيق مجتمع أكثر نهضة وحال أكثر تحسنا ، أما غير ذلك فهو عبارة عن ((تسييس)) للتربية وابقائها ضمن أطر وتقاليد ومواد دراسية جامدة متفق عليها لاتغني شيئا ولاتصنع تطورا ونهوضا .
تطرق الكاتب الى المدرسة – البيئات الأجتماعية والبيئة المدرسية – الوعي الأجتماعي النقدي . فالمدرسة بأعتبارها (( فضاء لايعادله فضاء آخر ، بمايحمله من معان ودلالات انسانية ومعرفية وثقافية واجتماعية يمكن من خلالها رسم آفاق الحياة والمجتمع ص28)) ، وان المدرسة هي المجتمع الصغير الذي يجب أن يكون (( مشذبا من الشوائب )) الموجودة في المجتمع تستوعب جميع الأفراد والطاقات لأجل بناء انسان متعلم متطور يستوعب تراثه ويساهم في حركة تغيير وتطوير المجتمع ، وتشجعهم على التحلي بشخصية المواطنة الضرورية الفعالة في الأنتاج والكفاءة . ولأجل ذلك فان المدرسة ليست مجرد بناية أو مكان ، وانما هي نظام تربوي يجب أن يتم تشييده وفق هذه الأسس والأهداف لتصبح المدرسة (( عالم ينمو ويتحرك ص32)) . وهذا النظام التربوي – هذه المدرسة الفعالة (( لايخلق من قوة النفوذ والسلطة والقبيلة والسلاح ص33)) وانما يجب أن تتحرر من هذه الهيمنة كما تحررت مدارس أوربا من هيمنة الكنيسة والطبقات الحاكمة الأرستقراطية لتصبح مهمتها (( ايقاظ الوعي في البيئة الأجتماعية والمحيط الأجتماعي ص36))
و((لأعادة بناء الأنسان والمجتمع والحياة والعلاقات الأجتماعية وأنماط الحوار وتشكيل الوعي النقدي الأنساني ص39)) .
وفي بحثه عن التعليم في العراق توسع الكاتب في مواضيعه وتغلغل الى الكثير من التفصيلات التي تتعلق بالعملية التربوية وماتعانيه من تردي وانحطاط و (( ان التعليم قد أصابه الأهمال سواء في المدن المستقرة أو المضطربة ولم تضع الدولة ومؤسساتها استراتيجية علمية ناجحة بخاصة وزارة التربية التي وقعت مع الأسف تحت قبضة المحاصصات الطائفية البغيضة في استدعاء – متخلفين – وطارئين على التعليم والبحث والأدارة ص40)) . ويتوسع المؤلف بهذا الصدد ليوضح كيف ان الجهل والتجهيل وسيلة للأستحواذ على السلطة والأمساك بمقاليد الأمور ، وكيف تسعى هذه الجهات الى تحريك مشاعر الناس وجهلهم لكسب أصواتهم مقابل وعود بغد أفضل ، وكيف ان البيئة المدرسية في العراق (( طاردة بأجماع الباحثين والدارسين والهيئات التعليمية والطلبة وعوائلهم ص41)) وأشار الى الكثير من الأمور السلبية والفضائح التي تنتاب واقعنا التربوي ، وكيف ان وزارة التربية لم تتمكن من ايجاد طريقة وبرنامج واضح وفعال للأستفادة من المبالغ التي منحت الى العراق لأغراض التربية والتعليم ولم تتمكن من توفير أبسط مستلزمات ومقتضيات النهوض بالواقع التربوي ، حيث الأبنية المدرسية المتهالكة أو التي تفتقد الى الخدمات أو المدارس التي على شكل كرفانات ، أو الصفوف المكتظة بالطلاب الى الحد غير المقبول ، أو افتقار العملية التربوية والكوادر التدريسية الى تنشيط وتحديث أساليب التعليم والمواكبة والأطلاع على تجارب الآخرين التعليمية ووسائلهم والأستفادة منها وتطبيق ماينسجم منها على نظامنا التعليمي ، وانعدام الفعاليات والورشات المختبرية وسبل ووسائل الأيضاح والتطوير (( ضعف الوعي البيئي لدى الكادر التدريسي – عدم توفر الساحات النموذجية – غياب التخطيط في توزيع الطلاب على الصفوف ص49)) .
وقد تضمن الكتاب عدد من الأحصائيات والجداول التوضيحية لبيان الكثير من الحالات والتفرعات ، ومنها مستوى عدم توفر الخدمات والأهمال للمدارس في بعض منلطق بغداد (( حال التعليم الأكثر تدهورا وخرابا في الحضور والشعور النفسي والأجتماعي في المناطق الشعبية كالرشاد وحي المعامل والباوية والزعفرانية والمدائن والفضيلية والعبيدي وحي التنك وحي النصر ص48 )) .
برغم كل هذا التدهور الا ان المسؤولين في مجلس النواب أو الوزارة المختصة ((يبحثون عن بدائل مضادة لحقوق المواطنة والتعليم المجاني في التوجه نحو الخصخصة تدريجيا ص53)) . أو التدريس الخصوصي الناتج عن ضغط الكوادر
التدريسية على الطلبة وعلى اهاليهم وارغامهم على القبول والتسليم بها برغم كل ظروف العوز والحاجة .
ان العملية التربوية اذا لم تجد الدعم الحقيقي والتخطيط العلمي الصائب لن تتمكن من احتواء أجيال الشباب (( الذين يتحولون تدريجيا الى جحافل من ضحايا الحروب والعنف والقسوة والتهجير والبطالة ص61)) .
وتطرق المؤلف الى الصراعات الثقافية والدينية والطبقية التي يتعرض لها التعليم في العراق ، وكيف تتحول هذه الصراعات الى عملية (( مسخ لهوية الأنسان وانتماءاته وأنماط تفكيره ص67)) ، ومثال على ذلك التدريس في العصور الملكية والعثمانية وفي الأزهر قبل مطلع القرن العشرين التي تعلم الطاعة والخضوع لولي الأمر مهما كان ، وتلقنهم بعض حواشي ومتون الكتب بعيدا عن العلوم المنقولة من دول الكفر , وكيف كان تعليم البنات يشكل صراعا ومشكلة اجتماعية .
الأحصائيات التي قدمها المؤلف تدلل على ممارسة فعلية وخبرة عملية تولدت من خلال مهام قامت بها كما قال المؤلف (( جمعية الثقافة للجميع )) ، كبراهين وأدلة على تردي الواقع التربوي في العراق حاليا ، والى ظاهرة تسرب الطلبة ، ونسبة الطلبة الراسبين والتاركين ، ومستويات نجاح الطلبة والطالبات .
وتطرق الى ظاهرة الأمية التي استشرت وتضاعفت في السنوات الأخيرة ، والحلول الممكنة لها ، ومدى الأستعداد والجاهزية لدى الدوائر المختصة بذلك ، والقوانين المشرعة بهذا الخصوص وهل هنالك امكانية لتطبيقها وتنفيذها كحلول تم رسمها سابقا .
يكتسب هذا الكتاب أهميته الكبيرة بسبب حاجتنا الى مثل هذه البحوث المختصة بمعالجة شؤوننا والتي تبحث وتسعى لأجل تطويرها ، وبسبب غنى المادة والدلالة والأيضاح والحلول التي يقترحها أو يشير اليها أو يمكن استخلاصها من الدروس الواردة فيه والتي تؤكد انها جاءت من صميم الواقع المعاش والتجربة العملية والأمكانية العلمية لدى المؤلف . . لاأملك الا أن أحيي المؤلف الدكتور عبد جاسم الساعدي على جهده العلمي الرصين الذي وضعه بين ايدينا ، وجمعية الثقافة للجميع على مساهماتها في هذا المجال .
مقالات اخرى للكاتب