في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، كُنتُ مولعاً بترجمة العلوم الحديثة التي أطّلع عليها، وقد صادفني مصطلح جديد وهو (Remote Sensing) ، وكنتُ أول من أسماه آنذاك بـ "التحسّس النائي"، وقد أخذ هذا المصطلح آنذاك حيزاً كبيراً من الإنتشار في مقالات ودراسات وترجمات نُشرت في المجلات والنشريات العربية في ألمانيا، وكذلك في البحوث والدراسات التي نُشرت في العراق.. ثم جاءت التراجم من الأخوة في مصر وسوريا لتسمية "الاستشعار عن بعد"، وفي مؤتمر عُقد في الكويت في منتصف السبعينات من القرن الماضي حول التعريب ونقل التكنولوجيا ، كان لي نقاشا حادا مع أخوة مغاربة، لأنهم رفضوا رفضاً باتاً كلمة التحسّس.. ولأكتشف بعد ذلك بأن الفاعل من هذا المصدر كلمة قبيحة لديهم ، في اللهجة المغربية المحلية، مثلما هي كلمة الزامل في اللهجة الليبية المحلية ، علما بأنه إسما لشركة خليجية معروفة فس صناة أجهزة التكييف ، فسخرتُ من هذا النقاش الغير علمي، ولزمتُ الصمت بعدها.
ولكنني أعود، لأذكر لكم بأني نصحت الأخ كاتب هذه الدراسة أن يطّلع على النجاحات التي حقّقتها بعض الدول العربية في مجال الاستشعار عن بعد، ومنها ليبيا، عن طريق (مركز الاستشعار عن بعد) الذي تمتلكه، هذا الذي أدعيه، عن طريق اطلاعي عن كثب على النجاحات التي حققها هذا المركز.. وربما تكون هنالك دولٌ عربية أخرى قامت بنجاحات مماثلة لست مطلعا عليها. ولكن ما علينا، فهل نحتاج في بلدنا العراق الغارق بالمشاكل على الأرض بتطوير مركز عصري، قد يستطيع رصد هول ما سيحدث من فواجع وكوارث على مستوى الكرة الأرضية وما يحيطها من فضاء ويُتقن حسابات القمر ويتنبأ بظهور الهلال.. وإلى غير ذلك.. نعم مثل هذه التقنية يجب أن نملكها ونطوّرها ونضاهي بها، مثلما كنا سباقين في المنطقة بتأسيس محطات السكك الحديدية والبث الراديوي والتلفزيوين.. وإلى غير ذلك.. ولكن بعد حين .
هنا أريد أن أطرح سؤالاً وباستغرابٍ شديد لعدم اهتمامنا بوجود مؤسسة مشابهة (تستشعر) بنجاح مشاكلنا ومتاعبنا وهمومنا اليومية الواضحة والقريبة التي لا تحتاج إلى (تلسكوبات وميكروسكوبات) أو حتى لمجسات وآلات وأجهزة حساسة، لأنها متاعب متوفرة وبكثرة أينما اتجهت ومشاكل من النوع الذي يشمه الأنف (المزكوم) وتسمعه الأذن الصماء وتراه العين العمياء.
تصوروا يا جماعة ونحن سنصبح على هذا القدر العالي والمتميز من الكفاءة المنفردة في العلوم الكونية الممتدة خارج ملعب الكرة الأرضية ومدى طبقة الأوزون عليها ألا يُصبح من العيب جداً أن يكون عندنا بعضا من مظاهر التخلف التي يمكن القضاء عليها ببساطة عبر تأسيس مؤسسة خاصة لذلك نسميها (المركز الوطني للاستشعار عن قرب)
ويُحدد في نظامها الأساسي بعد الإشارة لمجموعة القوانين والقرارات وباقي الديباجات المعتادة في المقدمة أن لها في سبيل ممارسة نشاط (الاستشعار عن قرب) حق الاستعانة بالحواس البشرية الخمس لتحقيق مطالبنا في:
- الاستماع لصراخ الناس الدائم من عدم وجود الكهرباء والماء ومن أزمة السكن الخانقة وعويلهم المتكرر من غول البطالة وحجمه المتزايد إضافةً لقصص الدراما والمعاناة للمحظوظين بفرص العمل المفروضة.
- تذوق مرارة أسعار الأدوية بعد الاستمتاع بطعم الخدمات الصحية الهزيلة ونكهة المواد الكيماوية والمسرطنة في سلع ومشروبات غذائية تباع علانية سارية ومنتهية الصلاحية قادمة من دول متعددة.
- رؤية واضحة لحجم النهب والسرقة للمال العام في معظم المشاريع والإنشاءات العامة والنظر إلى الفرق الشاسع بين المنجز والمتعاقد.
- شم رائحة الفوضى والفساد الإداري والعفونة المتصاعدة من مرض الرشوة المنشر.. إضافةً إلى (عبير) مستنقعات وبرك المجاري داخل الأحياء و(شذى) مصبات الصرف الصحي المختلط بنسيم البحر.
- لمس وإدراك حجم المشكلة والمعاناة من التعليم ومناهجه ومداخله ومخارجه وقراراته وتعليماته وتقلباته ووسائله واستعمالها كذلك للإحساس بالنتائج الوخيمة بيئياً وصحياً للتلوث ومؤشراته الظاهرة في كل مكان.
هذا باختصار شديد ما يُمكن استشعاره عن قرب وبالحواس الطبيعية فقط لمشاكل تجاهلها وتراكمها يحولها إلى أزمات وكوارث تشق صف المجتمع فيا ليتنا ننتبه ونُركّز أكثر على الاستشعار القريب ونترك حكاية البعيد.
لأن الأمر بصراحة سيُصبح مفارقة عجيبة وغريبة عند القول بأننا سننجح وبدقة متناهية في الحسابات الفلكية وتحديد مواعيد ورصد الأهلة في السماء ولسنوات قادمة، في الوقت الذي نعجز فيه على الأرض عن رصد الميزانية التسييرية في موعدها وقفل الحسابات الختامية لشركاتنا وميزانياتنا العامة ولسنوات أيضاً...!!! والمليارات التي تودع في مصارف بعيدة، هناك وهناك.. اللهم اسمع دعوانا.
مقالات اخرى للكاتب