حبُ الإنسانِ لذاته غريزةٌ أساس تُعدّ أصلاً لسائر الغرائز الإنسانيّة الأخرى، وبهذه الغريزة يقوم الإنسان بحماية نفسه، فيدفع عنها الأضرار، ويحميها من الأخطار، ويبحث عن مصالحها، ويدفع المفاسد عنها، وهذا ما أقرّته جميع الشرائع السماويّة والقوانين البشريّة؛ كما لا تختص هذه الغريزة بالإنسان، بل زوّد الله كلّ الكائنات الحيّة بغريزة الدفاع عن ذاتها، كلّ بحسب استعداداته التي منحتها له الخليقة.
وفي نفس الوقت الذي تواجه فيه الذاتُ البشريّة الأخطارَ التي تقف أمامها، نلاحظ إغفالها لخطرٍ يمكن عَدّه من أهم مصادر الظلم والعدوان بالنسبة إليها، وهو: نفس الذات الإنسانيّة؛ إذ إن هذه النفس تظلم الإنسان في كثير من الأحيان، وهذا ما أشارت إليه النصوص القرآنيّة والروائيّة؛ حيث نلاحظ إن مضمونها عموماً يخاطب الإنسان قائلاً له: أيها الإنسان الذي تُعبئ كلّ قواك من أجل دفع وردع أي عدوان خارجيّ ينتابك، ما بالك تخنع أمام ظلم ذاتك لك واعتدائها عليك؟
قال تعالى:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}().
{فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}().
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ...}().
وورد عن رسول الله(ص) أنه قال: >أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك<.
وعن أمير المؤمنين علي (ع): >نفسك أقرب أعدائك<.
كيف يظلم الإنسان نفسه؟
وقد يسأل سائل: عن كيفيّة ظلم الإنسان لنفسه، وهل يمكن أن يحصل ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، ونحن نعرف إن الظلم يحصل من الإنسان للغير فقط؟
والجواب: يمكن أن نذكر ثلاثة مصاديق لظلم الإنسان لنفسه وهي عبارة عن:
1ـ إطلاق العنان للرغبات
لا شكّ إن للإنسان رغبات متعدّدة كامنة فيه، ولابد من استيفاء استحقاقاتها في إطار حدودٍ وسقوفٍ حدّدها الشرع والعقل، لكن فتح المجال أمام هذه الرغبات دون قيود وشروط هو إيذاء للنفس، وظلم لها، رغم السعادة الظاهريّة التي قد يحسّ بها الإنسان.
والمؤسف إن البعض ممن يطلقون العنان لأنفسهم في عموم الميادين الغرائزيّة البشريّة، نجدهم لا يلتفتون إلى ذلك، ولعل نظرة يسيرة إلى الغريزة الماديّة، وإطلاق العنان لها من قبل البعض، كفيلة بإيضاح هذا الأمر؛ فإن من يتجاوز القيود والسقوف الغذائيّة مثلاً يفضي به إلى ظهور أزمات صحيّة كثيرة، ترافقه طيلة حياته، وربما تقضي عليها مبكراً، ومن هنا أكّدت النصوص الدينيّة على ضرورة الالتزام بالضوابط والقيود في استيفاء حقوق هذه الغريزة؛ كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، وآية ذلك هي صحة الإنسان وسلامة بدنه.
وتشير الإحصائيات إن نسبة الإصابة بالسكري في المملكة العربيّة السعوديّة في عام 1985 هي 5%، أمّا في عام 2014 فقد ارتفعت النسبة إلى: 24%، وهي نسبة عالية جداً؛ أي ما يربو على ثلاثة ملايين شخص مصابين بهذا المرض، وكذا الأمر في مرض السمنة؛ حيث إن الجلوس واختزان السعرات الحراريّة في الجسم يتحوّل إلى امراض فتّاكة في الجسم الإنساني.
ولا يقتصر الأمر على غريزة الطعام، بل يشمل ذلك غريزة الجنس أيضاً؛ فمن حقّ الإنسان أن يمارس الجنس، شريطة أن يأخذ القيود والضوابط الشرعيّة والأخلاقيّة بعين الاعتبار، ومن دون ذلك ستصبح هذه الغريزة وبالاً ونكداً عليه؛ حيث الأمراض الجنسيّة التي تأتي عن طريق التواصل الجنسي غير المنضبط الذي يعدُّ من أبرز أسباب الإصابة، فقد كثرت هذه الأمراض في الآونة الأخيرة كما تشير الاحصائيات حيث بلغ عدد المصابين بالايدز في العالم أكثر من 36 مليوناً، يموت منهم سنوياً أكثر من 720 ألف.
وحذّرت جمعيّة أواصر الخيريّة المواطنين المسافرين خارج المملكة العربيّة السعوديّة من سماسرة الجنس الذين يستقبلونهم في المطارات والفنادق المختلفة ويدفعونهم نحو الممارسة غير المنضبطة باسم الزواج والتي قد تسبب لهم أمراضاً فتّاكة تودي بحياتهم في نهاية المطاف.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الصحة السعودية أن العدد التراكمي لكافة الحالات المكتشفة بهذا المرض في السعودية منذ بداية عام 1984 وحتى نهاية عام 2012، بلغ 18762 حالة، كما تم اكتشاف 1233 حالة جديدة مصابة بفيروس الإيدز عام 2012.
2ـ تحجيم الاهتمام النفسي بالماديّات
لا شكّ إن الإنسان يختلف عن باقي الكائنات الحيّة في قيمته المعنويّة العالية؛ حيث لم يُخلق من تراب خالص، وإنما نفخ فيه خالقه الجبّار من روحه بعد أن أحسن صنعه وصنيعته، من هنا فهو يمتلك أفقاً معنويّاً يتطلّع من خلاله إلى دارٍ أخرى غير داره الدنياويّة، وهذا يدعوه إلى الحفاظ على البعد المعنوي والاستجابة له وتنميته، لا أن يترك ذاته منغمسةً في البعد الماديّ الخالص.
لكن المؤسف إن البعض يذهب صوب الماديّات، محجّماً لذاته في الطعام والجنس والممتلكات، ويحرم نفسه من المكاسب المعنويّة الهائلة التي كانت تتوفّر له لولا ابتعاده عنها وإهماله لها، على أن الشارع المقدّس لا يقف أمام المكاسب الماديّة وتحصيلها، لكنّه يدعو الإنسان إلى عدم تحجيم نفسه في إطارها؛ فأين الإنسان من المنجزات المعنويّة؟ وأين هو من التقدّم في ذلك العالم الذي سينتقل إليه؟
ولا شكّ إن أفق العلم والمعرفة، هو من التوجّهات المعنويّة، التي ينبغي على الإنسان أن ينحو نحوها، ويميل إليها، ومن يحرم نفسه من هذه المتعة العظيمة، والمكسب الجليل، فسوف يظلم نفسه دون شكّ وريب.
أجل؛ على الإنسان أن يلتفت إلى هذه الميزة التي ميّزته عن سائر المخلوقات، وعلى الإنسان أن يخصّص وقتاً لطلب العلم والمعرفة، كما يخصّص ساعات لتلك الأمور الماديّة؛ فقد ذمّت النصوص الدين حالة الركود في طلب العلم، والانكفاء على النفس، والعيش بجهالتها.
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْماً}().
وروي عن الرسول الله(ص) القول: « كُلُّ يَوْمٍ لا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي مِنَ اللَّهِ فَلا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ»().
وليس العلم والمعرفة هي الأمور المعنويّة الوحيدة التي ينبغي على الإنسان تهيئة النفس لطلبها، والالتذاذ بها؛ فإن لذة مناجاته تعالى، والاتصال به، لذّة عظيمة، خصوصاً في أيام الله المباركة، والتي حثّت النصوص الدينيّة على استثمارها بالعبادة والنسك؛ حيث يشعر الإنسان المنفتح على خالقه باللذة والسعادة والسرور، وهو يناجيه في آناء الليل وأطراف النهار، وهذا ما نجد مظهره على لسان النبي الأكرم(ص) حينما كان يطلب من مؤذنه بلال أن يريحه بالصلاة، فورد عنه (ص): >يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها<().
كما إن تجسيد القيم الأخلاقيّة والتمثّل بها يعدّ من أرقى اللذائذ المعنويّة الكبيرة؛ فحينما يكون الإنسان مصدراً لرسم البسمة على شفاه الأيتام؛ وإدخال السرور على قلوب المكروبين والمحزونين؛ والفرج على المهمومين... أقول حينما يكون الإنسان كذلك فلا شكّ أنّه سيحصل على أفضل السعادات المعنويّة.
ومن هذه الإشارات المتقدّمة نفهم: إن الإنسان الذي يهمل كلّ هذه المكاسب المعنويّة، فلا شكّ إنه يظلم نفسه، وهذا ما نبّه إليه الإمام عليّ(ع) حيث قال: «إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ أَثْمَاناً فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِالْجَنَّة»()، وليس ذلك دعوة للعزوف عن اللذائذ الماديّة والابتعاد عنها، وإنما هو تشديد على ضرورة أن يكون الاستيفاء في إطار النُصب التي وضعت لها.
3ـ ظلم الآخرين ظلم للنفس
حينما يظلم الإنسان إنساناً آخر، فهو في واقع الأمر قد ظلم نفسه، وبخسها حقّها، وعليه أن يتجنّب ظلم ابناءه أو زوجته أو أقربائه أو موظفيه، أو أيّ شخص آخر، من أجل لذّة زائلة داثرة لا استمرار لها؛ فإنّه بذلك يظلم نفسه ويتجاوز عليها.
وهكذا نعرف إن الانتصار الحقيقيّ هو الانتصار على الذات والنفس، وكما قال الأمير عليّ(ع): «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوب»().
فالظلم ظلمات وتبعاته خطيرة، وأول تبعاته مواجهة تأنيب الضمير، ثم سوء السمعة لدى الآخرين، وقد يقع الإنسان تحت طائلة العقوبة وردّ الفعل ممن أصابه ظلمه، أو يناله البلاء، أما التبعة الأشد فهو العذاب في الآخرة، يقول تعالى :{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}، يقول علي(ع): > وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ<.
وعنه(ع): >وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ<.
مقالات اخرى للكاتب