( صديقنا الذكي د.مؤيد الونداوي استذكر في كلمة اليوم عن احداث تركيا قولا مهما لاحد اساتذته وهو " نحن شعوب فجة نفكر من البطن نزولا ،ولا نفكر من البطن صعودا)...عذرا لمن ياخذه التفكير الى غير ما ارمي،لانني اعرض الموضوع للمناقشة..قضية تتمثل في اهمية الفكر الذي يمثله (ما فوق البطن) وبين الشهوات التي تمثلها ما تحت البطن.فلمن الغلبة في عالم اليوم عند العراقيين؟
اطمح برأي للصديق د. قاسم حسين صالح...في هذا الموضوع الحيوي).
تلك كانت للصديق الاعلامي المعروف (زيد الحلي) التي نشرها في الفيسبوك بتاريخ 17 تموز..وكنا استعرضنا في الحلقة الأولى وجهات نظر فلسفية وسيكولوجية ووعدنا بتقديم وجهة نظرنا الخاصة في هذا الموضوع.
يوحي الموضوع ان هنالك شعوبا (تعيش لتأكل) وأخرى (تأكل لتعيش) ما يعني ان القضية لا تخص أفرادا او طبقة سياسية او فئة اجتماعية،كقولنا مثلا ان الشعب العراقي (يعيش ليأكل) وان الشعب السويسري (يأكل ليعيش).فهل مثل هذا الحكم يعد صحيحا؟. وان كان صحيحا..فما هو السبب؟.وعلى هذين السؤالين يترتب سؤال أخطر هو:وما الذي ينجم عن ذلك على صعيد الفرد والمجتمع والدولة والوطن؟
نختصر الاجابة ونقول: ان كل الشعوب(ما تحت البطن وما فوقها) تولد بنفس الحاجات الاساسية: الطعام،الشراب،
الجنس،والنوم،وتسعى الى اشباعها.وانها جميعها لديها الحاجة الى التفكير والمعرفة والاستمتاع بالجمال والتغيير نحو حياة افضل.وان السبب الذي يجعلها تقف عند حاجات (ما تحت البطن) او تنشغل بها،وتلك التي تشبعها وتنشغل اكثر بحاجات (ما فوق البطن) هو طبيعة النظام السياسي ومستوى تطبيقه للعدالة الاجتماعية.
وما يعنينا هنا هو الطبيعة السيكولوجية والاجتماعية لشعوب (ما تحت البطن) بشكل خاص،وتلك التهمة التي تصف العرب والعراقيين بانهم منشغلون بالأكل والجنس.
تاريخيا،ان افضل نظام سياسي عاشه العرب هو (الخلافة الراشدية).ففيها كان الحاكم يتقاضى راتبا محددا،ولا يستطيع ان يتصرف بالاموال العامة كما يشتهي، ولا يمكنه ان يسجن او يعاقب او يقتل احدا كما يرغب، وما كان ليقدر ان يستبد بامور الناس كما يريد بل عليه ان يلتزم بالمبدأ القرآني (وامرهم شورى بينهم).
وبقيام الدولة الأموية..انتهكت العدالة الاجتماعية وبان التمايز الطبقي(الاسلامي العربي) بدءا من معركة صفين(37هجرية) حيث اصطف الفقراء وراء علي فيما اصطف الميسورون وراء معاوية.
كانت الخلافة الأموية هي اول سلطة عربية اسلامية تنفرد بالثروة وتشيع حياة الترف بين الحكّام واللاعدالة بين الناس.وزاد عليهم خلفاء الدولة العباسية اجواء المجون والترف السفيه،وزاد عليهما سلاطين الدولة العثمانية ما يمكن وصفه بالحياة الخرافية،ولكم في (حريم السلطان) وقصورهم في اسطنبول شواهد على ذلك.
اننا نحن العرب ،والعراقيين بشكل خاص كون بغداد كانت عاصمة الدولة الاسلامية،نتاج الف واربعمئة سنة لتناقض حاد بين سلطة تحتكر الثروة وتعيش حياة الرفاهية وبين شعب يعاني الحرمان والبؤس والاضطهاد (الحال يتكرر الآن بمفارقة غريبة!).
هذا يعني ان الشعب اجبر او اضطر الى ان ينشغل بحاجات (ما تحت البطن)..وانشغاله هذا كان بهدف تأمين اهم حاجة عند الانسان..(البقاء)،لا بطرا او ترفا كانشغال الحكّام الجدد شبيهي خلفاء الدولتين الأموية والعباسية بحاجات ما تحت البطن.
والتحليل السيكولوجي للشعب المنشغل بحاجات (ما تحت البطن) انه شعب متخلف مقهور،يتصف بقصور التفكير.واذا ما ذهبنا ابعد،فان الشعب الذي يضطر الى ان ينشغل بحاجات تأمين الطعام والشراب والجنس والنوم..والأمان،يكون في غالبيته عصابيا(مريضا نفسيا)..بل يمكن وصفه بأنه دجّن ليكون مازوخيا!
والمشكلة السيكولوجية ان الشعب المقهور يعمد الى العنف والعدوانية تنفيسا عن حالة العجز والمهانة والقلق وانعدام الشعور بالطمأنينة..وهذا هو حال العراقيين الآن.ولا يختلف النظام الديمقراطي الحالي عن النظام الدكتاتوري من حيث اشغال الناس بحاجات ما تحت البطن،بل ان الحال صار اكثر بؤسا لأنه احدث انقسامات في الشعب الى جماعات وطوائف وقوميات وانتماءات عرقية وقومية ودينية..متصارعة فيما بينها..يحكمها التعصب ويحركها دافع الانتقام والاستباحة،واستبدال مشاعر العجز بتضخم مفرط للقوة ازاء من تعده خصما او من كان (جلادّها) او من حولها الى (ضحية).والنتيجة الحتمية ان شعبا كهذا تتعطل لديه حاجات ما فوق البطن،باستثناء الذين يكون الفكر مهنتهم.
والشعب المقهور،البائس،العاجز..يكون بعيدا جدا عن التفكير الجدلي ولا يمارس التفكير النقدي الا كلاما سطحيا بدائيا لقصور منهجية التفكير لديه ولعدم قدرته على تنقية (فلترة) الفوضى المعرفية التي تربكه وتزيده غموضا وحيرة،فيلجأ الى الخرافات والمعتقدات الغيبية،
ويغرق في التمنيات،ويتلهى بالبحث عن حل سحري او قدري لمازقها..او ايجاد مخلّص كما يحصل الان لدى جماهير مليونية ترى في السيد (مقتدى الصدر) هو المنقذ!..مع انه حاول ولم يحقق لها حتى امنية الأصلاح دعك عن التغيير..مع ان حكومات ما بعد التغيير هي الأفشل والأفسد في تاريخ العراق والمنطقة.
ان تراكم الغبن وتوالي الخيبات والشعور بالعجز وتدجين الناس على تحمّل ما لا يطيقه البشر وانتظار (الذي يأتي ولا ياتي)، هي حالة (يرقص) لها الفاسدون في السلطة لكونها ضمانة بقائهم،فيما تشكل مأزقا سيكولوجيا يجبر العراقيين على الانشغال بحاجات (ما تحت البطن) الى ان يتم استبدال (خلفاء) العراق الديمقراطي او يطاح بهم ،او يموتوا !.
مقالات اخرى للكاتب