استغلت دوائر الكيان الصهيوني المختلفة، السياسية والأمنية والإعلامية، قضية اعتقال الفلسطيني محمد الحلبي، العامل في منظمة وورلد فيجين المسيحية الأمريكية، أسوأ استغلال وأبشع توظيف، وقامت بأوسع وأسرع عملية تسريب معلومات عن القضية التي لم تنته فصولها بعد، لتصدم العالم الغربي المسيحي بها، الذي يتبناها ويرعاها، ويمولها ويشغلها، لتشعره بتأنيب الضمير، وخطأ تعاونه مع الفلسطينيين، ولتخوفه على أمواله التي يقدمها ويتبرع بها، وليخبرها أنها لا تصل إلى مستحقيها ولا تستخدم في أماكنها الصحيحة، وأنها تتعرض لعملية خداع وتضليل من بعض العاملين فيها، الذين يستغلون قدراتها المالية واسمها الدولي وبعدها المسيحي في نقل أموالٍ إلى المقاومة الفلسطينية، وتحديداً إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي توظفها في تمويل العمليات العسكرية التي تنفذ ضدهم.
تولت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى جانب المخابرات ووسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة كبر الحملة الدبلوماسية القذرة، وحمل ملفها مديرها العام دوري غولد، مستشار وزير الخارجية رئيس الحكومة الإسرائيلية، المعروف بمكره ودهائه، وخبرته وتجربته في التحريض والتأليب وإثارة الشبهات وتحريك الظنون، والمفوض في إدارة العديد من الملفات الدولية والإقليمية، فذهب بعيداً في حملته ضد الفلسطينيين عموماً وضد حركة حماس على وجه الخصوص، وكلف العاملين في سفارات كيانه في مختلف أنحاء العالم الغربي والمسيحي، ببيان ما تقوم به منظمة وورلد فيجن التي يمولها المسيحيون، ويعمل فيها أكثر من أربعين ألف موظف على مدى العالم كله، وكان غولد قد حصل على موافقة نتنياهو لتسعير الحملة، وتوسيع نطاقها، والمضي بها إلى أبعد حدٍ ممكن.
ورغم أن عائلة المعتقل محمد الحلبي قد نفت جميع التهم التي وجهتها المخابرات الإسرائيلية لابنها، وأكدت أنها تلفيقات وافتراءات من الشاباك الإسرائيلي، وأنها تريد بها التضييق على الفلسطينيين عموماً، وعلى سكان قطاع غزة على وجهه التحديد، وأكدت العائلة في معرض نفيها للتهم الموجهة وتشكيكها بها، أن ابنها يهتم بالشؤون الإنسانية لشعبه الفلسطيني من خلال المؤسسة التي يعمل بها، التي تعنى بالمشاريع الفلسطينية، وتهتم بتمويل بعضها، وتؤازر العائلات الفلسطينية وتقدم العون للمحتاجين والمرضى منهم، وهو لذلك يحترم قوانينها ويلتزم بنظمها ولا يخالفها، ولا يقبل بإحراجها أو الإساءة إليها، رغم أن مساندة الشعب الفلسطيني ونصرته ليست جريمة يعاقب عليها القانون، ولا عيباً يتهرب منه الإنسان ويتوارى بسببه خوفاً وحياءً.
أما محامي محمد الحلبي فقد أنكر الاتهامات التي أوردتها المخابرات الإسرائيلية، وأكد أن موكله لم يدلِ بها، رغم أنه يتعرض لتعذيبٍ شديدٍ وضغوطٍ قاسية، إذ اعتادت المخابرات الإسرائيلية على استخدام وسائل غير مشروعة في الحصول على اعترافات المعتقلين، ولهذا فقد طالب بأن يزور موكله وأن يجتمع به على انفراد، كما طالب بالاطلاع على أوراق القضية وأدلة الاتهام واعترافات موكله إن وجدت.
لكن السلطات الإسرائيلية تريد بما أشاعت أن تبرر الاعتقال، وأن تضيق على الفلسطينيين عموماً، وأن تضرب الثقة بينهم وبين الدول الغربية التي تدعمه وتساندها، وما يعنيها كثيراً هو ردود الفعل الأولية، وقد لا تكون مهتمة بعد ذلك بالأمر إن تراجعت عن الاتهامات، وتبين أنها كانت تكذب وتفتري، لأن تداعيات الحدث تكون قد أخذت مجراها وآتت نتائجها المرجوة.
كما أنها تريد أن تبرر للرأي العام الغربي والدولي ممارساتها القمعية والعنصرية المهينة التي تمارسها ضد المواطنين الفلسطينيين الذين يتنقلون عبر معبر إيريز، حيث يتعرضون خلال انتقالهم لأعمال تفتيش مهينة، وتحقيقٍ شديد، وتعذيبٍ مذل، ومساوماتٍ غير أخلاقية، بادعاء أن من بينهم مشاركين بأعمال عدائية، ومتورطين في عمليات تمويلٍ وتخطيطٍ وتوجيه، وأنهم يستغلون التسهيلات الممنوحة لهم للقيام بأعمالٍ غير مشروعة.
استمرت الحملة الإسرائيلية المحمومة لتشوية صورة المنظمة، رغم إعلان مجلس إدارتها الصريح بأنه لا علاقة لمندوبها بحركة حماس، وأن عملها في قطاع غزة لا يتجاوز الحاجات الإنسانية للسكان، وأنها ومندوبيها لا يتعاطون السياسة، ولا يبنون مواقفهم أو يوظفون مساعداتهم بناءً على الميول السياسية للسكان، ولا يتعاملون مع التنظيمات والفصائل الفلسطينية المختلفة، ولهذا طالب المسؤولون عنها السلطات الإسرائيلية بتقديم أدلتهم وبيان ما يثب ادعاءاتهم قبل توجيه التهمة إليهم وإلى مندوبيهم، وكانت حركة حماس قد أعلنت من قبل أنه لا علاقة لها بمحمد الحلبي، ولم يسبق له أن تعامل معها بالمال، واتهمت المخابرات الإسرائيلية بتشويه الحائق وتزوير الوقائع خدمةً لأهدافها ومصالحها.
للأسف فقد صدقت بعض الحكومات الغربية المزاعم والأباطيل الإسرائيلية، وجمدت على الفور تعاملها مع منظمة وورلد فيجن، وأوقفت دعمها المالي المقدم لها بغية مساعدة الشعب الفلسطيني، وطالبت الحكومة الإسرائيلية بمزيدٍ من التوضحيات والمعلومات حول القضية، في حين أجلت بعض الدول قرارها في انتظار المزيد من المعلومات، ولكن الجهود الإسرائيلية لن تكتفي بتجميد دولةٍ أو دولتين مساهمتهما في هذه المنظمة، بل ستواصل سعيها ليكون القرار الأمريكي والغربي شاملاً، وهو ما بدأت ثماره تظهر في استراليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
تندرج هذه القضية التي أثارتها المخابرات الإسرائيلية ضمن الحرب الدولية التي يشنها العدو بالتعاون مع الإدارة الأمريكية، بقصد تجفيف المنابع المالية لحركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، وهي حربٌ قديمةٌ بدأتها منذ سنوات، وجندت فيها بنوكاً كبرى، وبيوت مالٍ دولية، ورجال أعمالٍ كبار، وجعلت منهم حراساً وجنوداً لها، يضيقون على الشعب الفلسطيني ويحرمونه، وكان بعضهم قد التزم بالدور المنوط به اقتناعاً، بينما خضع آخرون للسياسة الأمريكية خوفاً من العقوبات الاقتصادية التي قد تفرض عليها، أو هروباً من المقاطعة التي قد تجمد أنشطتها المالية، خاصةً أن الإدارة الأمريكية تتابع عبر بنوكها الكبرى حركة رأس المال في المنطقة العربية، وتتابع التحويلات المالية، وتراقب المصارف ومكاتب الصيرفة والتحويل وغيرها من بيوت المال، وتصدر تقاريرها الدورية التي تخيف البنوك وتقلق الدول.
مقالات اخرى للكاتب