سنتان مرّتا على احتلال داعش مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق، حيث يبلغ عدد نفوسها أكثر من مليون وسبعمائة ألف نسمة. ومنذ 10 يونيو (حزيران) العام 2014 تتكرّر مواعيد تحرير الموصل، لكن المعركة لم تبدأ بعد، في حين يستمر داعش في تدمير معالم المدينة وهدم آثارها التي لا تقدّر بثمن، ناهيك عن إعادة هيكلتها وفقاً لعقيدته الإرهابية التكفيرية.
وإذا كان الإعلان عن معركة الفلّوجة قد بدأ (23 مايو / أيار الماضي)، إلاّ أنها توقّفت أو تباطأت بإعلان من رئيس الوزراء حيدر العبادي، بعد أن تبيّن صعوبة اقتحام المدينة، بسبب مقاومة داعش غير المتوقّعة، على الرغم من خسائره وتدنّي معنوياته، لكنه لم يفقد زمام المبادرة، ناهيك عن توزيع قواه بين السكّان المدنيين وإلغامه المدينة ومرافقها الحيوية.
قد يكون الطريق الوعر لتحرير الفلّوجة مقدمة لتحرير الموصل، لا سيّما بعد تحرير محافظة صلاح الدين وعاصمتها تكريت، والقسم الأكبر من محافظة الأنبار وعاصمتها الرمادي، إضافة إلى مدن حديثة وكبيسة وهيت والقائم وغيرها، ولكن الفلّوجة حتى الآن تمثّل استعصاءً، حيث يختطفها داعش ويأخذ عشرات الآلاف من سكانها كرهائن، وتقدّر الأمم المتحدة عددهم بنحو 90 ألف شخص، وهم الذين لم يتمكّنوا من الهرب إلى خارجها، ويستخدم داعش بعض هؤلاء كدروع بشرية، فضلاً عن توظيفه بعض شبابها بغسل أدمغتهم في عمليات إرهابية، كجزء من عقيدة التنظيم وممارساته بالترغيب والترهيب.
مثلما يعتقد كثيرون أن الطريق إلى الموصل يمرّ عبر الفلّوجة، فإن داعش ذاته اعتقد ذلك، ولهذا السبب تسلّل في 2 يناير (كانون الثاني) العام 2014? بأرتال من سيارات الدفع الرباعي، وهي ترفع الرايات السوداء، والقادمة من عمق الصحراء بعد احتلال الرقة ودير الزور (السوريتان) إلى مدينة الفلّوجة، حيث تمّ احتلالها دون أي اشتباك مع القوات الحكومية، أو تعرّض للقوات المحتلّة.
حدث ذلك قبل نحو ستة أشهر من احتلال مدينة الموصل، التي تكرّر فيها سيناريو احتلال الفلّوجة، بل إن أبو بكر البغدادي وصل على رأس قافلة من سيارات الدفع الرباعي، إلى الموصل بعد أيام من احتلالها، ليلقي خطاباً في جامع الموصل الكبير، وحصل الأمر مرّة أخرى دون ردّ فعل أو مقاومة، وكأنّنا أمام خدعة سينمائية، بحيث يتم تخدير قوات الطرف الآخر، وتتوقّف جميع أجهزة الاتّصال والأقمار الصناعية، لتمرّ قافلة داعش “المنتصرة” بكل فخر وكبرياء، وهو في واقع الحال “انتصار أشدّ عاراً من الهزيمة”.
من الموصل تمدّد داعش إلى محافظة صلاح الدين ومحافظة الأنبار، وعدد من مدن محافظتي كركوك وديالى، بل إن ثقته بنفسه دفعته للتقدّم باتجاه محافظة إربيل عاصمة إقليم كردستان، لكنه عاد للتراجع بعدما شعر بحجم ردود الفعل الإقليمية والدولية، التي سارعت لحماية الإقليم وردّ داعش على أعقابه بعد أن وصل إلى نحو 20 كليومتراً من مدينة إربيل، فركّز هجومه على أطراف بغداد، وكانت معركة جرف الصخر حاسمة، خصوصاً بهزيمة داعش وقطع خط إمداداته مع الفلّوجة التي كان يعتبرها مقرّاً للقيادة الخلفية أو غرفة عمليات لإدارة معركته في بغداد، فالتجأ إلى إرباك الداخل العراقي بطائفة من عمليات التفجير والعمليات الانتحارية في بغداد والحلّة ومناطق أخرى. وزاد الأمر تعقيداً الانقسامات السياسية والتظاهرات الشعبية وصولاً إلى اقتحام المنطقة الخضراء وتعطّل البرلمان لبعض الوقت وتعويم الحكومة في بغداد بسبب الاختلاف حول المحاصصة الوزارية الطائفية ـ الإثنية الجديدة.
لم تفتح الحكومة العراقية حتى الآن تحقيقاً جاداً ومسؤولاً بما حصل في الفلّوجة قبل الموصل، ولو كانت قد حاسبت المسؤولين على وقوع الفلّوجة بيد داعش، لربما لم تقع الموصل هي الأخرى ضحية عدم الشعور بالمسؤولية أو التواطؤ أو التقصير، أو هذه الأسباب مجتمعة، ناهيك عن أن المزاج العام سواء في الفلّوجة أو الموصل أو المناطق الغربية والشمالية من العراق، حيث غالبيتها من العرب السنّة، هو ضد حكومة بغداد، لا سيّما لاتهامها بعد القوات الأمريكية، بممارسة الإذلال والتمييز والتهميش منذ احتلال العراق العام 2003 ولحد الآن، فضلاً عن عدم تلبية مطالبها الاحتجاجية وتعويض هذه المناطق عمّا لحق بها من غبن وأضرار، وخصوصاً بسبب غياب إرادة ومنهج للمصالحة الحقيقية وإصدار عفو عام وإطلاق سراح الأبرياء التي ظلّت السجون تغصّ بهم، إضافة إلى ردّ بعض الحقوق المهنية والوظيفية.
مع مرور الأيام وخلال السنتين ونصف المنصرمتين، كان داعش يُحكم قبضته على مدينة الفلّوجة، على نحو شمولي مستخدماً أبشع الأساليب لترويض السكان المدنيين، الأمر الذي اضطرّ نحو 90 بالمئة من أهالي الفلّوجة إلى مغادرتها.
وظلّت بعض أطراف المدينة بعيدة عن هيمنة داعش، حيث توجد العشائر التي تحاول الدفاع عن نفسها وعن مناطقها، لكنها لوحدها لم يكن بإمكانها إلحاق الهزيمة بداعش، بسبب التسليح واخـــــــــتلال التوازن العسكري.
وخلال المدة المنصرمة لم تتبلور خطة عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية للتصدّي لداعش ودحره، والسبب يعود لانقسام القوى السياسية، بسبب الخلاف بشأن “الحشد الشعبي” ودوره، الذي يتباين التقييم حوله من التقديس إلى التدنيس وإلى ضرورة أو عدم ضرورة تأسيس “الحرس الوطني” من أبناء المنطقة، ولا سيّما من رجال العشائر، وهو خلاف سياسي بين السنيّة السياسية والشيعية السياسية، ويمتد هذا الخلاف عمودياً، داخل المجموعة الواحدة، وداخل المنخرطين بالعملية السياسية وخارجها.
نعم فإنّ الخلاف يزداد بشأن دور العامل الإقليمي، وإيران تحديداً التي يتعاظم نفوذها ودور التحالف الدولي، والولايات المتحدة الأمريكية بالمقدمة، وذلك بين مؤيّد ومندّد، وبقدر ما للمسألة من جانب يتعلّق بالولاء والتّسليح والدّعم، فإنّ تعارضاته الداخلية شديدة، خصوصاً بين الكرد وإقليم كردستان من جهة، وبين المتنفّذين في حكومة بغداد من جهة أخرى، وذلك انعكاساً لصراعات حول المناطق المختلف عليها بين الكرد والتركمان والعرب، وكذلك بشأن مستقبل المادة 140 من الدستور العراقي، ارتباطاً مع المناطق التي يتم تحريرها من جانب قوات البيشمركة، حيث تندلع صراعات إثنية، إضافة إلى الصراعات المذهبية والطائفية القائمة. وهناك تخوّفات وعدم ثقة من جميع الأطراف، لا سيّما ما حصل في سنجار قبل ذلك وفي طوزخورماتو وبعض مدن ديالى، من تطهير وأعمال انتقام وعنف، وهو ما حذّرت منه منظمات حقوقية عديدة، إضافة إلى الأمم المتحدة، خصوصاً بعد تعرّض الهاربين من مدينة الفلّوجة ومن قبضة داعش إلى انتهاكات واستجوابات طالت بضعة مئات، وهو ما شَكَت منه بعض العوائل التي هربت مؤخراً والتجأت إلى القوات الحكومية.
وحدة العراق
سؤال كبير كان طرحه غراهام فولر من مؤسسة “راند Rand” الأمريكية المقرّبة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA منذ مطلع التسعينات. وهو سؤال لا ينمّ عن قدرات تنبؤية، بقدر ما يعكس ما يدور ويتردّد في أروقة الدبلوماسية الدولية، إضافة إلى مراكز الأبحاث والدراسات، وخصوصاً تروست الأدمغة الذي يعمل بمعيّة الرئيس الأمريكي، واليوم كلّما نشبت أزمة في العراق، أعيد طرح السؤال على نحو أكثر إثارة، وهو ما كان قد تبنّاه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي في مشروعه الشهير العام 2007 والذي حظي بموافقة الكونغرس الأمريكي، وذلك بإقامة ثلاث كيانات أشبه بدويلات منفصلة.
في دراسات العلوم السياسية، وخصوصاً الدراسات المستقبلية، لا تندرج الوقائع والمتغيّرات في باب التشاؤم أو التفاؤل، بقدر ما يتم تحليل الأوضاع واستشراف صورة المستقبل من خلال احتمالات عديدة، وبالطبع، فإن دراسة الحاضر لا تتم بمعزل عن الماضي، لوضع صورة المستقبل بما يؤكد أو يعارض وجهة التطور، سواء استمر الحال على ما هو عليه أو تراجع أو اتخذ منحىً جديداً.
لقد دأبت العديد من الدراسات المستقبلية بخصوص العراق، ولا سيّما منذ الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980 على النظر إلى الدولة العراقية، باعتبارها كياناً مصطنعاً، تأسس في العام 1921 باتحاد ثلاث ولايات هي: بغداد العاصمة والبصرة في جنوب العراق والموصل في الشمال، وذلك بعد انحلال الدولة العثمانية، واحتلال بريطانيا العراق 1918 – 1914 خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد عدم التمكن من حكم العراق بصورة مباشرة، ولا سيّما بعد ثورة العشرين العام 1920 أُخضع العراق للانتداب البريطاني لغاية العام 1932 حيث حصل على استقلاله، وانضم إلى عصبة الأمم.
الكيان العراقي الذي اتّخذ من النظام الملكي شكلاً للحكم واجهته منذ اللّحظات الأولى ثلاث إشكاليات أساسية، لا تزال باقية إلى الآن، وهي من أسباب أزمة الحكم البنيوية المعتّقة في العراق تاريخياً.
الإشكالية الأولى – تتعلّق بعدم إقرار حقوق الكرد، ولذلك ظلّوا مهمشين كشعب وهويّة، حتى وإن شاركوا كأفراد واحتلّوا أعلى المناصب.
الإشكالية الثانية – تخصّ البذرة الطائفية التي حاولت بريطانيا غرسها بسن قانون غريب للجنسية العام 1924 حيث يقسم فيه العراقيون إلى فئتين “أ” و”ب” تبعاً للأصول التاريخية، وذلك حتى قبل سنّ الدستور العراقي “القانون الأساسي” العام 1925.
الإشكالية الثالثة – ترتبط بهشاشة الهياكل والتراكيب “الديمقراطية” التي جاء بها الدستور، وهو وإن احتوى على قواعد قانونية إيجابية ومتقدّمة، إلاّ أن تطبيقاته كانت سلبية ووصلت إلى طريق مسدود في الخمسينات، حيث ضاقت هوامش الحرية إلى أبعد الحدود بحكم ارتباط العراق بحلف بغداد.
ولم يكن في مقدور دولة رخوة وقلقة وحملت نشأتها مثل هذه التناقضات الاستمرار في تلك الصيغة، حيث شهدت انقلابات عسكرية وتمرّدات وثورات، حتى أطيح بالنظام الملكي في ثورة العام 1958 وأقيمت الجمهورية العراقية.
لقد تأسّست الدولة العراقية كدولة بسيطة (مركزية) واستمرّت على هذا الحال إلى الاحتلال الأمريكي العام 2003 لكنّها اتّخذت شكلاً جديداً بعد ذلك، بموجب قانون إدارة الدولة لعام 2004 والدستور الدائم لعام 2005 فاتّجهت إلى اللاّمركزية، باعتبارها دولة مركّبة، اتحادية “فيدرالية”. وعلى الرغم من الوحدة الظاهرية التي كانت قائمة إلاّ أنّها لم تكن دليل عافية، وكانت هناك الإشكاليات والعقد الثلاث تنخر في جسدها.
بعيداً عن التشاؤم المُحبط والتفاؤل المفرط، فقد تغيّر العراق كثيراً، والدولة التي نعرفها في السابق، لم تعد موجودة، وعدنا إلى مرجعيات ما قبلها: دينية وطائفية وإثنية وعشائرية ومناطقية وغيرها. وكان حلّ الجيش والقوى الأمنية من قبل بول بريمر، القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، خصوصاً بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أساس طائفية وإثنية.
إن صورة الدولة اليوم تختلف عن دولة الأمس بحكم:
1 – الانتقال من الحكم الشمولي المركزي الشديد الصرامة إلى انحلال وتآكل وتفتّت تدريجي وصولاً للانشطار الفعلي.
2 – انبعاث الهويّات الفرعية وبشكل خاص بعد الاحتلال الأمريكي وإضعاف الهويّة الوطنية العراقية الموحّدة، وهو ما حصل في أوروبا الشرقية وعلى المستوى العالمي، وذلك أحد نتائج العولمة.
3 – الانتقال من الدكتاتورية إلى دولة المحاصصة الطائفية – الإثنية، أي نظام الدولة الغنائمية – الزبائنية.
4 – التحوّل من نظام الحزب الواحد إلى فوضى الأحزاب، ومن إعلام مركزي موحّد، إلى إعلام منفلت.
5-الانتقال من بلد مستقلّ إلى بلد محتلّ وتآكل الاستقلال الوطني، ومن وجود جيش وطني (جامع) إلى جيش أقرب إلى اتحاد ميليشيات وطوائفيات وتقاسم وظيفي، والانتقال من احتكار السلاح للدولة إلى انفلات السلاح واستخداماته، ومن بلد آمن أو شبه آمن، إلى بلد يعاني من الإرهاب والعنف على نحو ليس له مثيل.
6 – الانتقال من وجود فساد محدود غير ظاهر أو “مقنن”، وخصوصاً في فترة الحصار الدولي والعقوبات، إلى فساد منفلّت من عقاله، فمن بول بريمر إلى الآن بدّد الحكام حوالى 1000 مليار (أي تريليون) دولار.
7 – انثلام سيادة الدولة، ليس بفعل الاحتلال فحسب، بل بحكم سيطرة داعش على الموصل ونحو ثلث البلاد.
والسؤال مجدداً بعيداً عن الآمال والتمنيات، ماذا بشأن وحدة العراق ومستقبله، في ظل التعقيدات والتحديّات الراهنة؟
ويمكن للباحث أن ينظر إليها من زاويتين:
الزاوية الأولى – إن التطوّرات الراهنة على الرغم من وجهها السلبي، إلاّ أنها قد تسهم في استعادة وحدة الدولة، بعد هزيمة داعش، حيث تمرّست القوات العراقية في المعارك ضد الإرهاب واكتسبت خبرة وثقة بالنفس، يمكّنها من بسط سيطرتها على البلاد. ومن جهة أخرى، فإن مشاريع الانفصال أو التقسيم تواجهها عقبات جديّة ومشاكل إقليمية ودولية وصعوبات اقتصادية جوهرية، فضلاً عن تعقيدات إدارية وعملية، الأمر الذي قد يؤدي إلى استعادة لحمة الدولة في إطار نظام فيدرالي معدّل يوازن بين حقوق الدولة الاتحادية وحقوق الأقاليم، في ظل دستور جديد.
أما الزاوية الثانية، فإن التطوّرات التي يشهدها العراق قد تسهم في تفتيت الدولة، والتحديّات اليوم أكثر حدّة واستقطاباً من قبل، خصوصاً بعد فشل خطط الإصلاح والحراك الشعبي، وذلك بفعل: الطائفية والإرهاب والفساد المالي والإداري والميليشيات وضعف الدولة وتدهور هيبتها، لا سيّما بعد احتلال داعش، ويبرز ذلك من خلال الصراع على مناطق النفوذ، والصراع على المناطق المتنازع عليها، والصراع بخصوص المادة 140 ومستقبل كردستان، إضافة إلى الصراعات السياسية الشيعية – السنية، والصراعات داخل الشيعية السياسية والصراعات داخل السنية السياسية.
مقالات اخرى للكاتب