متشائمون نحن منذ قرون وقرون. تائهون في فضاءات القلق. لم نعثر في هذا الكون الفسيح على محطة آمنة نستقر فيها أو نلوذ بها. توارثنا تراكمات الظلم والظلام نتيجة طيش حكومات كثيرة مستبدة. سرقت فرحتنا. صادرت حرياتنا. صرنا نخاف المستقبل. نخاف من إشعاعات الأمل وومضاته المتوهجة في دهاليز مخيلتنا المعطوبة، صارت لغتنا الدارجة مشحونة بمفردات الخوف والتشاؤم. قد نضحك أحياناً من دون أن ندري. ومن دون أن ندرك مخاطر الفرح المفاجئ، فنعتذر لزملائنا على الفور، ثم نردد عبارتنا العفوية: (اللهم أجعله ضحك خير). فالضحك عندنا من الممنوعات. أما أقوى كلماتنا المشفرة برموز الخوف، فتبدو واضحة علينا في (نون) الهواجس والكوابيس، التي ظلت تطاردنا حيثما هربنا منها. ربما تجدون كلمة (أخافن) هي العلامة الفارقة في لهجتنا العراقية، وهي المفردة الملتصقة دائما وأبداً بعباراتنا العفوية التحذيرية، التي نعبر فيها عن شكوكنا وريبتنا بالمستقبل، أو نعبر فيها عن خشيتنا من المجهول. فنقول: (أخافن ما تجي)، وتعني: (أخشى أن لا تأتي). ونقول: (أخافن تضحكون علينا)، وتعني (نخشى أن تخدعوننا)، أو (أخافن نروح وما نلقاكم)، وتعني: (نخشى أن نذهب إليكم ولا نجدكم). فالنون هنا لتقوية الفعل، وإشباعه بالحركة، ويمكن أن نطلق عليها اصطلاح: (نون التوكيد التشاؤمية)، أو: (نون التخويف العراقية)، وهي مخففة دائماً، وليس لها أحكام خاصة، فحكمها واحد في كل الأحول. أما التوكيد في لغتنا الفصحى فله أحواله الخاصة، إذا خلا الكلام فيها من توكيد كان إخلالاً بصحته، وأساليبه متعددة: كالتكرار، والقسم، وإضافة أدوات التوكيد. مثل: (إن وأنَّ ولكن ولام الابتداء) في الأسماء، و(قد واللام ونوني التوكيد) في الأفعال. ولها حالات ثلاث. إذا وقع الفعل جواباً لقسم، أو مثبتاً، أو مستقبلاً، أو متصلاً بلام القسم. مثل: (والله لأَناضلنّ). بيد أن الأمر يختلف عند التوكيد بنون التخويف الساكنة، التي صارت من أدوات الشعر الشعبي العراقي. شاعر يقول:
أخافن يا ورد من طحت شموك
وخذوا عفة صلاتك والتسابيح
وآخر يقول:
صدقوني من أخافن عندي أسباب
أشم ريحة مقابر بين الإنفاس
وآخر يقول:
ما أقدر أبوسك من حلاة البيك
أخافن من أبوسك يصعد السكر
نعلم علم اليقين إن معظم الأمراض مصدرها الخوف والقلق، ونعلم إن الشعور بالطمأنينة والأمن والأمان هو الباعث الحقيقي لكل الإبداعات البشرية، لكننا لا نتملك القدرة حتى الآن على مغادرة كهوف الخوف، والخروج من دهاليزها المعتمة، فالخوف والتخويف من أقوى أدوات السلطة والتسلط في عموم البلدان العربية، فما بالك بالبلد الذي صار هدفاً للغزاة والطغاة والحشرات.
مقالات اخرى للكاتب