من يقرأ الكتابات والدراسات الأدبية والفقهية المتعلقة بمفاهيم الأقلية والأكثرية يعتقد أنها من اهم القيم والمبادئ الديمقراطية في ظل الحياة السياسية والتعددية التي تضمن وجود الكتل والأحزاب السياسية التي تنبثق منها للتنافس على السلطة من خلال الانتخابات الدورية النزيهة أو – أكثر الأحيان – غير النزيهة .إنّ مقياس مبدأي الأقلية والأكثرية يقوم على أساس وجود أكثرية في الحركة السياسية ترسم منهجاً سياسياً معيناً تطرح فيه مشروعاً يتناسب وأيديولوجيتها التي تؤمن بها وتحقق أهداف الأصوات التي انتخبتها .أما الأقلية فهي صاحبة مشروع وطني ومنهج سياسي أيضاً تطرحه بالاتجاه الآخر إلاّ أنه لم يحصل على أكثر أصوات الناخبين ، غير أنها تتطلع في سياستها وإقدامها وبقائها لاحتلال موقع الأكثرية والسبب في ذلك يعود إلى أن الأقلية أو الأكثرية ليست دائمة في اللعبة السياسية والديمقراطية فقد تبادل المواقع والإدارة والسلطة خلال الدورات الانتخابية المتعاقبة.إذ لا توجد في السياسة والديمقراطية والتعددية أقلية دائمة أو أكثرية دائمة إلاّ في الأنظمة الاستبدادية التي تسمح للأديان التدخل في السياسة .فالمجتمع الذي يقوم في أغلبيته على قومية أو طائفة أو مذهب معين لا يمثل أكثرية سياسية وإنما يمثل أكثرية واقع قومي أو طائفي أو مذهبي مفروض الأمر الذي يجعل هذه الأكثرية فرض وجودها وسياستها على الأقليات الأخرى ، وهذا لا ينحصر في بلد أو قطر معين وإنما ينسحب إلى البلدان الأخرى .إنّ النتيجة الحتمية لهذا التنافس هو العداء المستمر المتواصل للآخرين من جهة وتهميشهم لا لذنب اقترفوه وإنما لانتماء فكري أو عقائدي من جهة أخرى وهذا لا يتوافق مع الأنظمة الديمقراطية بل يتوافق مع النظام الاستبدادي المكروه الذي يعمل على فرض سياسته ومبادئه على الآخرين بالقوة .إنّ هذه النظرة الضيقة العدائية السوداء لمفهومي الأقلية والأكثرية تعمل على إحباط القوى الوطنية والكوادر الإدارية والمهنية المختلفة وهجرتهم وعدم استقرارهم ، واللجوء إلى العنف والانتقام .وهذا الأمر عبّرَ عنه القرآن الكريم في كثير من آياته المقدسة حيث قال اللهُ تعالى في الأكثرية (وأكثرهم للحق كارهون) (المؤمنون – 70) وقوله (وأكثرهم لا يعلمون) (الأنعام – 37) و (أكثرهم لا يعملون) (المائدة – 103) و (وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون) و (وإنّ كثيراً من الناس الفاسقون) (المائدة – 49) (وأكثرهم لا يعقلون … لا يعلمون لا يفقهون … لا يشكرون … الخ) .
أما فيما يتعلق بالأقلية قال اللهُ تعالى :
(وما آمن معه إلاّ القليل) (هود – 40) وقوله (قليلٌ من عبادي الشكور) (سبأ – 13) و (إنه لن يؤمن من قومك إلاّ من آمن ) (هود – 36) و (ثلةٌ من الأولين وقليلٌ من الآخرين) (الواقعة – 14) .وأكثرُ من كل هذا إن معظم القادة والأنبياء قتلوا بسيوف الأكثرية وبموتهم تبكي عليهم الأكثرية .وهنا لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نبني مستقبل الإنسان أو الأمة على التوقعات والتصورات العددية والانقسامات العقائدية كما يصار ذلك عادة في الاستفتاءات والانتخابات وصناديق الاقتراع وإنما يجب أن تكون القاعدة كما قال الإمامُ علي (ع) :
(لا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك اللهُ حراً) وكما قال فولتير : (إني لا أوافق اطلاقاً على ما تقوله ولكني أدافع حتى الموت عن حقك فيما تقوله) .وويلٌ لأمة تحسب المستبد – كما يقول جبران خليل جبران – بطلاً وترى الفاتحَ المذلّ رحيماً .
مقالات اخرى للكاتب