الدول العربية سقطت بأيدي الأنظمة التي تحكمها ، والهوية القومية العربية والهويات الوطنية المرافقة لها في طريقها إلى الزوال التدريجي لصالح عالم عربي بلا هوية يتميز بالفردية والإنعزالية في أعماقة والتوحش في سلوكه . إن إختفاء الهوية الوطنية هو مسار غير إختياري وأشبه بالإنجراف اللإرادي في إتجاه صاخب مجهول ولكن بإندفاع يوصل إلى نهاية محتومة أهم ما يميزها هو سقوط النظام السياسي السائد في العالم العربي .
بعض العرب لا يريد الإعتراف بالتغيير القادم ويـُصرﱢون على التشبث بالحاضر الذي يعرفون بالرغم من إنحساره الواضح وتفتته الدامي ، والبعض الآخر وبعد أن تم إيقاظ أصولهم العرقية أو إنتماآتهم الدينية أو الطائفية أصبحوا يرفضون الوضع القائم ويريدون فـَرْضْ التغيير بأي ثمن . ويبدوا أن السَـأَمْ من الفشل المتلاحق والمزمن للنظام السياسي العربي قد حَفـَّزَ الكثيرين على الإنطلاق في إتجاهات بعيدة عنه .
تحليل ما يجري وحتى الحديث عنه ينطلق في معظم الأحيان من أسس خاطئة تستند إلى الحنين للماضي متجاهلة واقعاً جديداً قيد التشكيل . من هنا فإن الصدمة التي أصابت المعظم عندما بدأت التطورات تعصف بالمحظورات والمحرمات لصالح القبول بها كأمر واقع له ما يبرره خصوصاً وأنها قد تحولت مع الوقت من محظوات ومحرمات إلى خيارات سياسية دون أي ضوابط تمنعها من الإنجراف والإنجرار وراء اللامعقول مثل التعامل مع إسرائيل كحليف ضد الأخوة وأبناء العم ، أو قيادة السعودية للعالم العربي أو ما تـَبَقـَّى منه .
الخطاب القومي والخطاب الوطني رافقا أجيالاً عديدة من العرب وغير العرب سواء قبلوا بهما عن قناعة أو على مضض . ولكن يبقى الأساس أن الخطاب القومي لم يحظى بنفس درجة القبول التي حظي بها الخطاب الوطني خصوصاً وأن العديد من القيادات القومية السياسية والحزبية والمؤسسية عملت على إحتكار قيادة العمل القومي السياسي والمؤسسي بعضها لعقود وبعضها الآخر عمل حتى على توريث الحكم أو المنصب لأبنائها مما خلق حالة واسعة من الرفض والإشمئزاز الجماهيري من ذلك السلوك وأدى إلى التأثير السلبي على مصداقية تلك المؤسسات والفـِكـْر الذي تـُمَثله . ومن الأمثلة على ذلك حكم حزب البعث في العراق وسوريا ، بالإضافة إلى بعض مؤسسات العمل القومي مثل مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي . كل ذلك ساهم في النهاية في الإساءة إلى الفكرة القومية وقدرتها على السلوك الديموقراطي بالرغم من أن البدايات لمؤسسات العمل القومي تلك كانت سامية إلا أن النهايات ضَحـﱠت بالفكرة وسُمُوّها من أجل مطامع ومكاسب شخصية ورغبة مجنونة في إستمرار الهيمنة على مقدراتها .
إن غياب الديموقراطية جعل الخطاب الوطني مرتبطاً بالأنظمة الحاكمة مما جعل منه أداة من أدوات النظام ووسيلة دفع إما إلى الأمام كهوية مُـحَفـﱢزة طامحة خلال الحقبة الناصرية مثلاً وهي حقبة لم تتكرر ، أو إلى الخلف كقوة تـَزَمـُّتْ وإنغلاق خلال معظم الحُـقـَبْ الأخرى .
إن تسخير الخطاب القومي والخطاب الوطني لخدمة النظام قد جعل من الممكن للبعض إعتبار الهوية الوطنية إمتداداً للنظام وبالتالي إعـُتـِبرَ أمر التخلـُّص منها أو الإبتعاد عنها أو تغييرها أمراً جائزاً ومسموحاً به وضمن محاولات تدمير النظام كما حصل مثلاً في العراق ويحصل الآن في سوريا . وهكذا فإن الدولة الوطنية أصبحت في الحقيقة لا تمثل المواطن بقدر ما تمثل السلطة الحاكمة . وفي المقابل فإن السلطة الحاكمة أبدت إستعداداً لتدمير الدولة الوطنية أو تمزيقها من أجل الحفاظ على بقائها كما يجري الآن في سوريا . والمواطـَنـَة التي تحولت إلى مشكلة في ظل أنظمة مستبدة ظالمة أساءت إلى بعض المكونات الوطنية لشعوبها سوف تفقد بالضرورة كل معانيها في غياب الهوية الوطنية والدولة الوطنية .
إن ما يجري الآن هو في أصوله مزيجاً من إنهيار الأنظمة الحاكمة وبالتالي كل ما يرتبط بها ، وإنهيار النظام السياسي الإقليمي العربي نظراً لفشله في تحقيق أهداف الشعوب العربية أو حتى في تحقيق ذاته ، في حين أن نظاماً مثل النظام الإيراني والذي قد لا تمثل سياساته ونهجه غالبية الشعب الإيراني ، قد نجح في تحقيق ذَاتـِهِ من خلال تلبية طموحات الدولة الوطنية الإيرانية في لعب دور إقليمي رئيسي مُعترف به دولياً بينما فشلت الدول العربية في تحقيق أي شئ يقارب ذلك .
الهوية الوطنية إنتقلت إذاً من مـَظـَلـَّةٍ تــَجْمَعْ وتحمي ما تحتها إلى أداة تخدم النظام وأصبحت بصفتها تلك طرفاً في الخلافات والنزاعات الداخلية . وهذه النقلة جعلت من تفتيت هذه الهوية أمراً ممكناً وقضية وقت ، بل وقد يكون بالنسبة لبعض المجموعات الإثنية أو الدينية هدفاً تسعى إلى تحقيقه على حساب الدولة الوطنية .
لا يوجد إجماع وطني على قبول بديل أو بدائل للنظام السياسي السائد والمعمول به حالياً . ويبدوا أن عملية التغيير قد فتحت الباب أمام الأجندات الخاصة لمختلف المجموعات العرقية والدينية والمذهبية لترجمة طموحاتها الصغيرة على شكل دويلات بنفس الصِغـَرْ في ظل عدم وجود رؤيا مُوَحـﱠدة أو واضحة لما يجب أن تؤول إليه الأمـور . وهذا النهج فتح الباب على مصراعيه أمام الإقـتتال والحروب الأهلية مما سبب المزيد من الضعف للكيانات الوطنية وجَعَـلَها فريسه سهلة للتدخل الخارجي .
البديل للهوية الوطنية هو إما هوية دينية طائفية أو مذهبية أو عرقية وهي هويات إقصائية في طبيعتها لا تقبل بالآخرين وتحمل في طياتها قدراً كبيراً من الإنطوائية والباطنية والعدوانية الطاردة وليس الجامعة .
يعتبر الكثيرون أن الحديث فيما يجري من تطورات في المنطقة العربية هو من باب التكرار المُمِل الذي يبعث على السَأَمْ . بل وأكثر من ذلك أنهم أخذوا ينظرون إلى قضايا المنطقة ومشاكلها بإستخفاف ولامبالاة أو يأس وقنوط . وأصبحت المذابح اليومية في سوريا وقبلها في العراق والآن في اليمن موضوعاً لا يحظى بإهتمام الناس . وأصبحت القضية الفلسطينية مدعاة لتجاهل أو لسخرية العديد من العرب وأصبح التعامل مع إسرائيل مصدر فخار ، وأصبحت الكيانات الصغيرة الجديدة تعتبر إسرائيل حليفها الإستراتيجي الطبيعي والضامن لأمنها ، والكيانات السياسية العربية التي كانت سائدة هي العدو وهي مصدر الخطر . وبالنسبة لتلك الكيانات الجديدة أصبحت قضية فلسطين لا تعني شيئاً وأصبحت العروبة حـِمْلاً ثقيلاًَ تود الكثير من الأنظمة التخلص منه حتى تصبح حركتها في كل الإتجاهات ممكنة بعد أن يتخلوا عن ذلك الإرث العربي الضاغط والذي فشل في تحقيق أي هدف بما في ذلك الوحدة العربية أو تحرير فلسطين ناهيك عن خسارة ما تبقى منها عام 1967 .
في ظل هذه الأوضاع العامة المريرة ، يتساءل المرء عما ستؤول إليه الأمور . هل نحن حقيقة بصدد المرور في مرحلة تاريخية حتمية ولكنها مجهولة العواقب ؟ أم نحن نحصد ما زرعنا وأن ما نحن فيه هو من صنع أيادينا وليس مفروضاً علينا ؟ هل غياب القدرة على الرؤيا والإستشراف هو نتيجة حتمية للعشوائية التي تسير بها الأمور، أم ماذا؟
الحقيقة هي أن المستقبل واضح ولكننا لا نريد أن نراه . فالعالم العربي الذي نعرفه هو بصدد الإختفاء ولا أحد يريد أن يعترف بذلك والبعض مازال يتغنى بأمجاد الماضي . المعظم يود لو تستقيم الأمور كما عرفناها ولكن قوى التغيير وأحياناً التآمر أو العدوان المباشر كما جرى في العراق هي أكثر قدرة وديناميكية من قوى الحفاظ على الأمر الواقع، ناهيك عن أن المنظومة الأخلاقية ومنظومة المُحَرﱠمات التي حكمت سلوكنا كأفراد وكدول ابتدأت في الزوال أو الإنحسار لصالح منظومة جديدة قد لا تمت بصلة لما عرفناه وإعتـَدْنا عليه.
إن الحديث عن حتمية التغيير لا تعني أنه قادمٌ بين ليلة وضحاها . فالتغييرات الإستراتيجية في المنطقة لن تكون فورية بل ستحتاج إلى حقبة من الزمان حتى تتبلور وتبدأ في الإستقرار . وإذا كانت الدولة الوطنية كما نعرفها في طريقها إلى الزوال فهو أمر يجب أن يأخذ أيضاً مداه التاريخي حتى يتحقق .
المستفيد الأكبر من هذه التغييرات هو إسرائيل . فتغيير النظام السياسي العربي القائم والإطاحة بمنظومة القيم والمحرمات لن يؤدي إلا إلى تعزيز وضع إسرائيل في الإقليم وإعطاءها صك غفران على كل ما إرتكبته وترتكبه بحق الفلسطينيين وتحويلها من عدو مغتصب إلى حليف إستراتيجي .
ولكن هل هذا كله نتيجة مؤامرة أو مخطط قادم من الخارج ؟ في الواقع أن ما نحن فيه هو في الأساس نتيجة خلل في البنية السياسية للمنظومة العربية ودُوَلـِها القـُطـْرِية التي سَخـَرﱠت كل مواردها لخدمة الأنظمة الحاكمة ، وكذلك نتيجة الفشل المتكرر لهذه المنظومة في الوصول إلى أي نجاح في تحقيق أهدافها أو جزء منها مما دفع الكثيرين إلى الإيمان بفشلها وعدم قدرتها على النجاح في مساعيها أو في إنجاز أي شئ .
العروبة لم تعد تعني شيئاً للبعض والهوية الوطنية لم تعد تعني شيئاً للبعض الآخر ، ومن هنا أصبح إزدواج الجنسية أمراً مقبولاً بالنسبة للمسؤولين في العديد من الدول . والأساس هو أن الجنسية الوطنية فقدت الكثير من أهميتها وأصبح إزدواجية الجنسية أو تعددها أمراً قد يصبغ صفة العديد من المواطنين وبالتالي المسؤولين في الحقبة المقبلة . وقد نشاهد في الحالة الأردنية مثلاً مواطنين أردنيين يحملون الجنسية السورية (إن بقيت) والعراقية (إن بقيت) والفلسطينية والإسرائيلية (في حالة سكان القدس أو فلسطيني 1948) والأمريكية والكندية ... إلخ . وهؤلاء قد يصبحوا نواباً ووزراء ً وسفراء ومسؤولين بشكل عام في دولة هلامية أو لا مركزية .
سقوط الدولة الوطنية يعني سقوط الهوية الوطنية . والتـﱠشـدﱡقْ بكلمات مثل الوطن والوطنية والجنسية والمواطنة تصبح أموراً لا معنى لها إذا لم يتم إستعمالها ضمن إطار سياسي يمثل هوية سياسية وطنية يعترف بها الجميع ويقبل بها وبالعمل ضمن إطارها وهذا بالضبط ما نحن بصدد فقدانه .
مقالات اخرى للكاتب