ما الذي تعنيه حقيبة اليد يا ترى؟ هل يمكن عدها علامة على منحدر طبقي أو ثقافي ما؟ تساءلت قبل أيام وأنا أشتري الحقيبة اليدوية الأولى في حياتي من بائع يجلس أمام دائرة الجوازات العامة في الكرادة. كانت زهيدة الثمن وأنيقة نوعا ما وقد دشنتها فورا فنقلت أشيائي من اللفيكس لباطنها وعلقتها على كتفي بفرح طفولي.
نعم، لم يحدث أن اقتنيت واحدة سوى تلك التي أهديت لي إبان سفري لعمان. كانت صغيرة ومن النوع الذي تحمل فيها الأوراق المهمة. عداها لم يحدث أبدا أن قررت حمل حقيبة من أي نوع ولا لبست خاتما، لم أضع في يدي ساعة ولا في عنقي قلادة إلّا ما ندر. كنت، بالأحرى، أضيّع مثل هذه الأشياء بوعي أو بدون وعي وكأنني أتخفف من حمل ثقيل.
قدر تعلّق الأمر بكوني مثقفا فإن عدم حملي حقيبة كان علامة على فقدان واحدة من خصائص شكلية ميزت كثيرين من أقراني في الثمانينيات والتسعينيات. أقول ذلك متذكرا منظرهم وهم يحملون الحقائب واضعين فيها عادة علب سجائرهم وأوراقهم المهمة وأحيانا بعض الكتب التي يستعيرونها من بعضهم البعض. أنا لم أفعل ذلك ولم أحاول تقليدهم. ربما لشعوري الداخلي بأنه ما من شيء لديَّ يستحق الحمل لدرجة الحرص على وضعه في حقيبة. فلا أنا بالأكاديمي الـ"مرموق" ذي البحوث المترادفة، ولست بالشاعر "الفحل" الذي لا يستغني المحررون عن قصائده.
هذه الفكرة، فكرة أنه ليس لديك ما تحرص على حمله، خطيرة للغاية وهي تحيل لما يسمى بلغة الجسد، ولدى المختصين بهذا الجانب أفكار تستحق الانتباه. هم يقولون مثلا ان الحقيبة من علامات الشخصية ومسرّبٌ لبعض ملامحها. الحقيبة المنتفخة الكبيرة قد تدل على أن صاحبها لا يجد الوقت لإنجاز مشاريعه وهو مهموم بها ويود الإشارة للآخرين بهذا، لكأنه يقول لهم ـ تره ما عندي وقت والرجاء اختصروا علاقتكم معي. بينما تعد حقيبة اليد الصغيرة المغلقة بإحكام أن صاحبها عملي ويختصر مشروعاته بما يعده مفيدا وضروريا له. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار عدم حمل الحقيبة شظية من شظايا تفكير الفقراء والمعدمين، أولئك الذين يضعون أشياءهم، إن كان لهم أشياء ما، في أكياس نايلون أو"علاليك" متهرئة تناسب نوع محمولاتهم وقيمتها. كثيرون منهم لا يفكرون عادة في حمل حقائب إلّا أثناء السفر أو حين يراجعون دوائر رسمية، بل إن بعضهم حتى أثناء مراجعتهم للدوائر يضعون أوراقهم في أكياس نايلون ويلفونه حولها، وهذا يشير إلى عدم امتلاكهم حقائب أو غيابها التام من ثقافتهم الاجتماعية. ثمة، بهذا الخصوص، مشهدٌ معتاد يمكنك تذكره الآن؛ ها هو ذا زائر فقير يزورك ثم يحدث أن تعطيه شيئا ما فيحار أين يضعه. وفي الأخير، يركن لكرمك حيث تدبّر له زوجتك "علاكة" معقولة وتعطيها له ثم تقول ـ عود رجعها بيد فلان!
بالمقابل، لدى هؤلاء استعمالات للحقيبة لا تحيل لاستخداماتها لدى الأغنياء. ففي الوقت الذي يحمل الأغنياء حقائب اليد في تجوالهم ويحرصون على مواكبتها للموضة، تجد الفقراء يضعون فيها أوراقهم العائلية وصورهم الفوتوغرافية، كتبهم الرسمية القديمة، حجج دورهم، شهادات جناسيهم وهوياتهم، زنامات زواجهم، شهادات وفاة آبائهم، بيانات ولادة أبنائهم والخ. وعادة ما تكون هذه الحقائب قديمة جدا و"خربانه"، ذات جلد متجرد وسحابات "مشلوعة"، ويكون مكانها في أبعد منطقة عن العيون والأيدي، فهي شديدة الأهمية ولا يسمح لغير الأم أو الأب إخراجها والعبث بمحتوياتها. من اشترى هذه الحقيبة يا ترى ومتى؟ سؤال تصعب إجابته فهي إرث عائلي قديم، "مضموم" ضمن حاجيات رمزية لا تظهر دائما وتسمى دائما؛ "الجنطه مال الجناسي".
نعم، خطر كل هذا في ذهني وأنا أحمل حقيبتي السوداء. هذه التي لم أعتد عليها بعد لكنني سأحاول، خصوصا أنها ستحفظ هوياتي وأوراقي كما حفظت "الجنطة مال الجناسي" تاريخنا العائلي عقودا على عهد الوالدة. ولي مع حقائب النساء عودة فانتظروني.