كدت أفطس من الضحك قبيل أيام وأنا أرى في صفحات الفيس صورة جدّ طريفة لسيارة "سايبة" كُتب على صندوقها الخلفي: عله عناد ابو البهبهان أفول باستكانه. بلاغة الكناية لا تخطئ الذهن ورمزيتها الطبقية تكاد تلعلع في الشارع، ذلك أنّ حجم خزان البنزين الخاص بـ "السايبة" ربما كان صغيرا بالقياس إلى خزان السيارة التي يسمونها الـ "بهبهان". ومن هنا تخيّل مجترح الكناية أن صاحب" البهبان" قد يستخدم "استكان" الشاي لملأ خزانها، ثم انطلاقا من هذه الصورة السيريالية، تمّ تخيّلُ صاحب"السايبة" وهو يكتفي باستكانٍ واحد لملئ خزان سيارته، فهي صغيرة و"مجكنمه"، وهي، قبل ذلك، زهيدة الثمن وغير مكلفة، لا في كمية البنزين الذي تستهلكه، بل في أسعار قطع غيارها أيضا.
لقد تخطر لي، في الواقع، أنّ في الكناية روح سخرية وتندر من الفروقات الطبقية التي قد يكون الشارع من أوضح مسارحها على الإطلاق. فأنت إذا ما تأملت مسير العربات أمامك ستلحظ، دون شك، أن أشكالها الخارجية وهيئات راكبيها تحيل لثلاثة طبقات عدا رابعة منسية مهملة؛ ثمة أولا طبقة ارستقراطية تقتني أحدث السيارات ولا ترضى بسواها وقد تتجاوز أسعار تلك السيارات المائة ألف دولار كما هو الحال مع "الهمر" الأمريكية، ثم هناك طبقة متوسطة تتكون من الموظفين وصغار الكسبة، وهؤلاء لا تسمح إمكانياتهم المادية لهم بمزاحمة الأثرياء على مركوبهم الأنيق، إنما يمدون أرجلهم على قدر أغطيتهم فيستقلون سيارات تناسب دخولهم، من قبيل تلك التي لا تتجاوز أسعارها الـ" ١٥٠٠٠" دولار. وبعد هاتين الطبقتين، ثمة طبقة فقيرة محدودة الدخل، ولأبنائها أنواعٌ من السيارات معروفة كـ"الوازات" والماركات التي أكل الدهر عليها وشرب، كالـ "فولكس واغن" ذات المنشأ البرازيلي، أو الـ"لاندكروزات" والـ"كرونات" من موديلات السبعينيات والثمانينيات، وأبرز علامة لهذه الأنواع هدير محركاتها الذي "يجيب التايه" ودخان صالنصاتها الذي يعمي العيون.
غير أنك وأنت تتأمل هذا المشهد الطبقي، تستطيع أن تلمح في هوامشه وسائط نقلٍ تشير لطبقة رابعة منسية هي دون الفقيرة وفوق المعدمة بنتفة، وبعض أبنائها تدبروا لأنفسهم بعد اللتيا والتي" ستوتات" و"عرباين" من التي تجرّها الأحصنة والحمير، ثم خرجوا لطلب رزقهم فيها. لهؤلاء وجودٌ واضح في أحزمة بغداد، الشرقية خصوصا، مثل "سبع اقصور" و"حي طارق" و"الشيشان" وبيوت التنك خلف السدة. فهناك، حيث أبناء العشوائيات و"الحواسم" يحاولون إدارة حياتهم بما قلّتْ كلفته وعظمت مهمته، يمكنك أن ترى الناس يستقلون "الوازات" المصنوعة في عقد الخمسينيات، شيبة وشبابا ونساءً وأطفالا، ممسكين بأبدانها الرثة، متنقلين بها في شوارع خربة وغير مبلطة، نادبين حظهم العاثر الذي جعلهم يضطرون للسكن في تلك المناطق. ولكن مع هذا، قد تنظر في "مقصورة" السائق فترى ما يوحي إليك أنه راضٍ بقسمته من إله العباد، فإلى يساره سترى لوحة كُتب عليها: هذا من فضل ربي، وإلى يمينه ستشاهد لوحة أخرى مكتوب عليها: عضة أسد ولا نظرة حسد، وفي الوسط، قرب مطفأة السجائر التي تحولت إلى خزانة دنانير، ستقرأ: لا تكن للرزق مجروح الفؤاد .. إنما الرزق على رب العباد.
الحال أن مثل هذه العبارات اللاهثة خلف الرزق والستر، الخائفة من العين والحسد، ربما هي معادلٌ جاد وذو بعد روحي للعبارات شديدة السخرية التي ذكرني بها صاحب "السايبة" الذي ابتدأت به المقالة. ذلك أن الصراع الطبقيّ الذي قد يجد صورته في تمايز أنواع السيارات وانحدارات أصحابها، ربما تجسد بفلسفة الإيمان بالقسمة والنصيب، من جهة، وبالتهكم من تلك القسمة، من جهة ثانية، والدليل على فكرة التهكم هذه ما يزال يلتمع في ذاكرتي، ففي ذات صباح من صباحات التسعينيات الحزينة، كنت ماشيا في منطقة "الطالبية" ببغداد، فإذا بي ألمح "عربانه" يقودها صبيّ، وإذ تبينت ما كتب في خلفيتها، ضحكت حتى كادت تتقلقل أسناني، لقد كتب الغلام متندرا من مركوبه: كيّا إلا شويه!
نظرت مرة أخرى لأستمتع بالعبارة اللاذعة فإذا هي: كيّا إلا شويه!
يا إلهي ما أبلغ رسائل الفقراء، ما أعظم كناياتهم التي قد لا يدرون هم منطلقاتها، و"على عناد ابو البهبهان، أفول باستكانه"..
مقالات اخرى للكاتب