لا يختلف اثنان حول ما تشكله فاجعة الطف ,من انعطافة كبرى في تاريخ البشرية ,وما تمثله من درس بليغ يتجاوز آطر الزمان والمكان ,ليعكس قيم الايثار والبطولة والفداء وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية (الذاتية ).لا يختلف احد حول كونية مأساة كربلاء التي رسمت لسائر الاجيال والشعوب على اختلاف السنتها وثقافاتها ودياناتها ملامح تلك الطرق المؤدية الى سعادة الانسان وحصوله على ذلك العيش الذي يليق به كانسان على وجه الارض , الا ان فهمنا للحسين ولقضيته يتطلب منا مراجعة شاملة بين الحين والاخر ,حيث يجب ان تخضع تلك القضية الى عدة مستويات من التعاطي , لا سيما على صعيد الممارسات والتطبيقات التي ترتبط بالقضية ذاتها .
لا يخفى على احد اننا اليوم كعراقيين مهددين بوجودنا كشعب وكأمة وكمجتمع ,مهددين اقتصاديا بسبب سياسات عالمية ماكرة لا ترى في تقدمنا سوى خسارة لمشاريعها الاستكبارية , التي تقوم على الابتزاز وصناعة الازمات والحروب الداخلية ,نحن اليوم مهددين طائفيا بسبب تخندق اقليمي تدفع به قوى الشر العالمية التي ترى ان من مصلحتها ان تبقى المنطقة ملتهبة ليأكل ابنائها بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا ,نحن اليوم مهددين سياسيا بسبب فساد ومحدودية فهم طبقة سياسية لا يهمها سوى منافعها وامتيازاتها الحزبية والكتلوية الضيقة ,طبقة سياسية استطاعت ان تعمل بمكر وخبث ودهاء على اللعب على مختلف الاوراق الطائفية والمذهبية بشتى الطرق والوسائل لغرض تأمين بقائها متسيدة على كراسي النفوذ والمسؤولية ,نحن اليوم مهددين بقوت عيالاتنا ومصير اجيالنا القادمة ,لذا فلو اننا تصورنا ان الامام الحسين (عليه السلام )قد بعث حيا بلحمه ودمه ولو لوقت محدود واجل غير ممدود ,فبماذا ينصحنا الحسين يا ترى وبماذا سيشير علينا ,هل سيشير علينا بمواصلة الزحف المليوني نحو قبره الشريف وسط حمامات القتل ومناخات حز الرقاب ,هل سيشير علينا بمضاعفة طقوس الحزن والمبالغة في آليات الحداد واعلان الجزع ,ام انه سيشير علينا بالنهوض بمسؤولياتنا التاريخية التي نهض بها هو في زمانه, ليبقى خالدا ما بقي الليل والنهار .
انا على يقين تام ان الامام الحسين (عليه السلام ) لو بعث حيا لكان قد وجهنا لمضاعفة الجهود واستثمار الوقت الذي اخذ ينفذ من بين ايدينا ويتسرب من تحت اقدامنا , لكننا لا نآبه لنفاذه ولا نلتفت الى ضياعه.
لم ولن تنهض امة من الامم بعد كبوتها الا عبر اشاعة روح البناء والاعمار والترويج لمفاهيم العمل (الانتاج )الذي يمهد لخلق مجتمعات تحفظ كرامة الفرد والجماعة والتي هي من صميم الاديان السماوية .
الامم والشعوب لا تنهض بمواصلة شريط البكاء وشد الرحال وجلد الذات وبذل المأكول والمشروب على امتداد الاف الكيلو مترات ,لكنها تنهض عبر تدارك ما فاتها من فرص للتقدم وما عزب عنها من مراحل تاريخية راحت هباءا بسبب سياسات الظلمة وحماقات الجهلة ,الامم لا تنهض بشق الجيوب وخمش الوجوه وضرب الصدور ,لكنها تنهض بالعمل على ما حرص الحسين بن علي (عليهما السلام ) عليه من ترصين وترسيخ لقيم الاصلاح والانصاف والايثار ووضع الحلول لمجتمع اخذ يسير نحو التفسخ السياسي والاجتماعي والاخلاقي على يد حكامه وساسته .
ان مواصلة السير الى كربلاء على النحو المعمول به اليوم مع بالغ اعتزازنا وتقديرنا لجموع الزائرين وتمنياتنا لهم بالحفظ من كراهية اهل التخوين والتكفير ,ان مواصلة سير الزائرين من كل عام في اربعينية الامام الحسين (عليه السلام )سوف لن يغير من واقع مجتمعنا المرهق المتعب , شيئا يذكر بل لعل هذا ما يزيد من تفاقم الامور , لا سيما على المستوى الامني والاقتصادي لذا فمن من الاهمية بمكان ان تتم عملية مراجعة شاملة لما اعتدنا عليه من طقوس وفعاليات والعمل على تكييف كل ذلك مع ما نمر به من ظروف تتطلب منا العمل والجد والاجتهاد والمثابرة والمطالبة بتوفير فرص كافية للمساهمة الفاعلة في دفع عجلة البلاد الى الامام فذلك عين ما حرص عليه الامام الحسين عبر تضحيات جسام عظام خلدته على مدار التاريخ .
قبل نصف قرن استلهم المهاتما (غاندي) مبادى الامام الحسين في التصدي للظلم والصبر على الم الجراح , واستقبال رماح بني امية بصدر مطمئن ,فمهد المهاتما بذلك لقيام دولة مستقلة للهنود ,اصبحت اليوم تضاهي اكبر الدول في مجال تصدير خبراتها وعلمائها ,فهل نستطيع نحن ان نبني انموذجنا الخاص بنا على ضوء تجربة الحسين وفكر الحسين وفقه الحسين(عليه السلام )
مقالات اخرى للكاتب