يشكل الادباء والفنانون والمثقفون في كل بلد الجناح الانشط في التحليق ، وهم المعيار الرئيسي لمدى تغيير و تطور الشعوب في المراحل المتعاقبة ؛ فمن الطبيعي ان تفتخر أي دولة بهم على ضوء انسياقهم الثقافي وتضعهم في منزلة خاصة ، ترعاهم وتهتم بهم ، تقيم اعتبارا استثنائيا لهم على مستوى العيش الكريم ، ففي الوقت الذي تتبارى الدولة لمنح مبدعيها الجوائز المالية والرمزية التي تعبر عن حق المثقف في الرعاية ، هذه الرعاية حرصا من المشرع على دور الثقافة في تنمية المجتمع والتي دائما ما تكون نواة المجتمعات المتحضرة ، باعتبار ان المثقفين من رموز الدولة ، بحيث كل دولة تتمتع بعمق ثقافتها من خلال الشخصيات الذين يتمتعون بدرجة عالية من الدراية في نشر الثقافة والوعي للمجتمع ، ويكونوا ادوات صالحة لخدمة كل المكونات والاطياف التي تحيط بهم . وفي اكثر الاحيان تكون النخبة المثقفة بكافة اختصاصاتها ، لها الدور الاكثر اهمية وتاثيرا على المجتمع نحو الافضل والاحسن والتقدم المستمر في الجوانب الإيجابية .
لم يعد خافياً علينا ، مدى تعاظم تأثير الثقافة على الشعوب في كافة ميادين وشؤون الحياة ، التي تحمل مشاعل التنوير والمعرفة وتجعل معنى لهذه الحياة ، من حيث الطبيعة الفسيولوجية والاجتماعية والنفسية ، وتسهم فى تمهيد العلم والتطورلأوطانها ، لولا ابداع المثقفين لم يختزل التاريخ في ذاكرة الشعوب والاجيال . وكما لم يعد خافياً علينا بإن دور المثقف المحايد في تحديد الموقف المحدد ازاء اية مشكلة او قضية والتعبير عنها وباية طريقة او نوعية ، والذي من المعتقد ان يخدم المجتمع اكثر واوسع من المثقف الواعظ . يكون التاثير الايجابي الصحيح على التغيير الطبيعي الحتمي الحاصل في كافة امور الحياة من خلال كشف التضليلات وتوضيح الامور وتسليط الضوء على الحقائق استنادا على الدلائل .
نستطيع ان نقول بان لدينا الكثير من الابداعات في العراق التي حملت عقل وروح مبدعيها وبما يعكس الهوية الثقافية العراقية . إن أسوأ ما يحدث اليوم فى العراق مخيب للآمال ، هو تجاهل الجانب الثقافي " بصورة عامة " ، وغيبته حتى في مسميات مناصبها الادارية ، والاستغناء عن المثقفين والمبدعين الحقيقين الذين يطالبون بتأسيس الدولة المدنية الحديثة في العراق " بصورة خاصة " ؛ كما تحصل في المؤسسات الثقافية " ومنها وزارة الثقافة ؛ مناصب تمنح لاشخاص بعيدين كل البعد عن الثقافة ، وهكذا اختفت عندنا الثقافة الايجابية أن تضع في أولوياتها مصالح الشعب العراقي ، وتدعيم أمنه واستقراره ، لذلك لا يمكن لأي مثقف ان يطور نفسه في عمله ، إذا لم تكن هناك جهة رسمية او غيررسمية راعية له .
الا ان الذي يحصل في العراق يثير المواجع والحسرة ، حيث الاقصاء والتهميش للنخب الابداعية ، ممن يود أن يخدم بلده ، وتسلق إنتهازيين ومتلوكين والطارئين على العمل الثقافي ومنها الإعلامي الذين لاعلاقة لهم بالعمل الصحفي من قريب او بعيد !! ، اغلب الاحيان يبقى المثقف المبدع ذو الخبرة مهمشا ومحروما من اي تجمع ثقافي لانه لا ينتمي الى اي حزب . والحقيقة المرة التي قد تغيب عن بال العديد من المسؤولين أمور المثقفين واهمال ذو طاقات نادرة الوجود ، الذين ينتشرون في مجاهل الأرض ومغترباتها. والسبب لذلك ، لان بعضهم مَن إحتلوا مراكز القرار بناء على المحسوبية وإعتماد الولاء لهذه الكتلة أو تلك ، و حسب إلإنتماء المذهبي ، والقومي ، لذا يحاولون عرقلة مسيرة النخب الابداعية واهمالهم خوفاً على مكانتهم ومناصبهم ، حيث انهم يتصدقون بثرواتهم على من يواليهم من الواعظين ، وللأسف غياب المبادرات الحكومية في معالجة هذه الظاهرة الشاذة .
عرف الجميع بان حزب البعث لقد سلك سلوك أغناء بعض الادباء والفنانين من خلال الأغداق عليهم بالمنح والمكرمات والرواتب الضخمة بسبب موقفهم الى جانب نظام البعث وتغطية جرائمه بحق الشعب العراقي من خلال كتاباتهم والقاء اشعارهم ، حتى أصبح البعض منهم يدافع عن حكومة البعث أكثر من البعثيين أنفسهم ، والأمثلة على ذالك كثيرة ولا داعي لذكر أسماء ، واهمش المثقفين الاصلاء وشرد اكثرهم الى الخارج او زجهم في أقبية الاجهزة الامنية .
قدر العراق الذي لا مفر من هكذا الدخلاء والجهلاء على الثقافة (في أي زمن) ، ومحاولتهم لتقويض المثقفين الاصلاء وتخوينهم وتهميش دورهم ، تشويه صورتهم بأي ثمن " ارضاءُ للمسؤولين " ، والتهجم على المثقفين (الذين يبحثون عن الحقيقة وكشف الفساد) وتكتم أفواهم بوسائل قذرة ونتنة تعبر عن نفسية المسؤولين الذين انتهجوا اسلوب حزب البعث في منح المكرمات للأدباء المتزلفين والدخلاء على الثقافة ، والتخلص من المثقفي الاصلاء والمدافعة عن مدنية الدولة .. والكارثة هنا هو انعطاف العديد من المثقفين البارزين في العراق بعد 2003 نحو خلع ثوب الحياد من جراء ضغوطات العاطفة والمالية ، بحيث سيطرت المصالح الذاتية الخاصة على عقليتهم ، و للاسف يحدث هذا التغيير من قبل المثقفين اليسارين والذين لهم ثقلهم ومكانتهم وموقعهم العالي داخل المجتمع العراقي ليست سوى دلالة اخرى على غياب المثقف الحقيقي في الاسهام في تشكيل ثقافة المجتمع المدني .
بالامس كان صراع بين الموالين للحكومة وبين المعارضين ، وكان نصيب المثقف المحايد دائما مع المعارضين ، لان له مواقف المعارضة اتجاه الحكومة السابقة ، وتعبر عن آراءه الرافض لأخطاء الحكومة وهفواتها وانحرافاتها وكبواتها المتكررة والمتعمدة ، لذلك كان له صوت وسماع ، وان تعرض للمضايقة او للسجن او التهديد كان هناك الاصوات يدافعون عنه ، ولكن اليوم فقد المثقف المحايد دوره على الساحة السياسية العراقية بسبب لم يبقى صوتا ناصعا ليدافع عن الحق ، لان اكثر المعارضين الذين كانوا موحدين في مواجهة نظام البعث ، والان يقاتلون بعضهم البعض بعدما ان توزعوا بعد سقوط نظام البعث بين الاحزاب المتصارعة من اجل سلطة ومال ، وفقد المثقف المبدع والمحايد كل شيء ولم تقف احدا بجانبه عندما يتعرض الى اي نوع من التهديد ، بل يحاربونه بكل الوسائل المطروحة لدى المسؤولين والواعظين الجدد ، لذلك يحرم المثقف المحايد من اي دعوة للحضور في مهرجانات وكرنفالات الثقافية ، لان هكذا الاحتفالات تابعة الى الاحزاب السياسية التي تحصر الدعوات لجماعاتهم فقط من الحزبيين والموالين لهم من الذين يعملون من اجل اهداف سياسية لاحزابهم ، ولأن الصراع الحقيقي اليوم لا يكمن بين أيديولوجية وأخرى ، بقدر ما يتجلى في الصراع بين من هو محافظ على "الوضع القائم" ومن يدعو إلى تغييره ، لذلك أصبح المثقف المحايد هو الهامش ، بينما مثقف "حراسة " الوضع القائم هو الأصل الذي يكون مُبرزاً لك في كل زاوية إعلامية .
لقد كثرة الوعاظين بعد سقوط نظام البعث وتوزعوا على الاحزاب الطائفية والقومية ، وهيمنة بعضهم وسطوتهم على جزء ليس بقليل من ثقافة المجتمع العراقي ، لانهم يعرفون كيف يوظفون الموروث الثقافي لصالحهم ويستغلوا مشاعر الناس البسطاء والاميين والجهلة " وهؤلاء يشكلون السواد الاعظم من الشعب العراقي ".
الواعظون الجدد إمعات الأجندات الحزبية ومناصرين للاحزاب في الحق والباطل ، حتى لهم دور لازداد المأزق الثقافي تعقيداً ، ودخل المثقفين جهنم الأحقاد والكراهية والخوف من الآخر ومحاولة الغائه ، هؤلاء يحاولون إيقاف عجلت الديمقراطية والحرية والسلم الأهلي في العراق وتخوين من يخرج إطاعة حزبيهم وباتهامهم بالعمل مع هذه الجهة او تلك ، ونسوّا أنفسهم وهم يهرولون خلف ملذات الدنيا على فتات موائد من يريد تهميش وإقصاء للمثقف المبدع واهماله بشكل لا يصدق ويريد إحلال الواعظ بديلا للمثقف اللامع ، أن هذا الأمر ليس جديدا ، موضحا أن " إقصاء المثقفين الصلاء بدأ في عصر النظام السابق " .
مقالات اخرى للكاتب