العراق تايمز: كتب د. فؤاد جابر كاظم*
عرضت قناة البي بي سي العربي مؤخرا برنامج (أثير الكراهية)، خصص للحديث عن الظاهرة الطائفية. وقد حاول معدو البرنامج الظهور بمظهر المتوازن في تناول المسألة الطائفية بين الشيعة والسنة. وكان مقدم البرنامج نور الدين زوركي حريصا على خلق هذا الانطباع لدى المشاهد. لكن العديد من المشاهدين لاحظ ان ان البرنامج سقط في فخ "عدم الحيادية، حيث يمكن تلمس ذلك من خلال قراءة ما بين السطور وطريقة توظيف المقاطع المستخدمة والتعليق عليها. فوفقا لهؤلاء، رسم البرنامج صورة الشيعة وهم في وضع المهاجم المتحفز، بينما ظهر الطرف الآخر في وضع الدفاع عن النفس، مما يعطي المبرر لأي عمل يقوم به ضد "الطرف المهاجم". ان هذه الصورة- بحسب- هؤلاء هي النقيض لما يحدث على الارض.
من جهة اخرى، أشتكى مؤخرا بعض المعلقين العراقيين من قناة البي بي سي العربي حيث أتهم أحد هؤلاء المعلقين القناة بالطائفية صراحة. وبحسب هذا المعلق، فان قناة البي بي سي العربي، متورطة "بتلك الاجندات" وهو يشير بالطبع الى التدخلات الاقليمية والدولية المختلفة التي تساهم في تأجيج الوضع في العراق. بل ان هذا المعلق يتهم صراحة كادر القناة بالوقوف وراء الخطاب الاعلامي التحريضي ضد العراق، حيث "ان هذه القناة ونتيجة لتوجهات بعض العاملين فيها تحاول النيل من العراق والحكومة العراقية وتدفع باتجاه التقليل من الشأن العراقي والتأجيج على حكومته المنتخبة عبر برامجها الحوارية". كما ان القناة تمارس تضليلا اعلاميا من خلال " اظهار صورة غائمة عن حكومة العراق" و "نعتها بالطائفية". (سعد الحمداني: قناة البي بي سي العربي أيضا تتآمر على العراق، موقع صوت العراق 12/3/ 2014).
ان طرح السؤال/ العنوان حول طائفية قناة البي بي سي يبدو مبررا لجهة تقييم الاداء الاعلامي للقناة خصوصا في خضم الاحداث التي يعيشها الشرق الاوسط والعالم الاسلامي عموما. فمن المعلوم ان هذا الخطاب لا يأتي ارتجالا بل هو مرتبط بالمنهج الاعلامي العام الذي تسير عليه القناة. لكن هذا المنهج، يستدعي من دون شك، الى الذهن مدى الصلة بين الاعلامي والخطاب الحكومي الرسمي.
الاعلام البريطاني والسياسة البريطانية
تعد قناة البي بي سي من القنوات القليلة في العالم التي تحظى بمصداقية كبيرة. ويعود سرهذه المصداقية الى تمتع القناة باستقلالية واسعة سواء من ناحية التمويل أو من ناحية رسم السياسات العامة التي تتبعها ازاء القضايا السياسية الداخلية أوالخارجية. لكن مسألة ارتباط المحطة بالسياسة البريطانية العامة ومدى انعكاس ذلك على السياسة الاعلامية للقناة تبدو شائكة وغير واضحة المعالم خصوصا في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. ولعل قضية تورط البي بي سي ودورها الفعال في اسقاط نظام الزعيم الوطني الايراني محمد مصدق في العام 1952 تبدو مثالا عمليا على مدى امكانية توظيف القناة في السياسة الخارجية البريطانية.
على كل حال، تبقى هذه العلاقة مثيرة لعلامات الاستفام والبحث. فمن جهة تبدو القناة ملتزمة بالسياسات الحكومية العامة في قضايا كثيرة داخلية وخارجية. لكن القناة، تمارس من جهة أخرى، معارضة واضحة للخط الرسمي في مسائل وقضايا عديدة، حيث وجهت نقدا شديدا لسياسة الحكومة البريطانية. كل هذا يدفع الى الاعتقاد ان البي بي سي لديها هامش من المناورة او الحرية ما يجعلها تسير بخطها الذي تسير عليه. ولكن مرة أخرى ينبغي طرح السؤال الجوهري والمهم: هل خطاب البي بي سي الاعلامي مختلف عن السياسة البريطانية العامة، وهل هناك تصادم بين الخطين بشكل واضح ام ان البي بي سي ماهي الا منفذ للسياسة العامة ليس الا؟
السياسة البريطانية في الشرق الاوسط
يبدو مناسبا هنا رسم صورة عريضة للمشهد السياسي في الشرق الاوسط وموقع بريطانيا منه. حيث يمكن تلخيص هذا المشهد كالتالي: تتخذ السياسة البريطانية موقفا عدائيا صريحا تجاه ايران، وهذا الموقف ليس وليد اليوم، بل هو انعكاس لتأريخ طويل من انعدام الثقة بين الطرفين يمتد الى أكثر من قرنين من الزمان. علاوة على ذلك، تثير مواقف ايران السياسية الاقليمية خصوصا موقفها من الصراع العربي- الاسرائيلي، وكذلك تطلعاتها النووية، القلق لدى الولايات المتحدة الامريكية والمعسكر الغربي عموما، خصوصا في ظل حملة اعلامية اسرائيلية موجهة ضد طموحات ايران.
على مستوى آخر، تبرز بريطانيا كواحدة من أكثر الدول الداعمة لتصنيف حزب الله كمنظمة ارهابية على عكس موقف بعض الدول الاوربية الاخرى مثل النمسا والمانيا. على صعيد مواز، تنتهج السياسة البريطانية موقفا مساندا للتحالف السعودي- التركي في ما يخص سوريا. وليس سرا ان بريطانيا ظلت تتخذ حتى الان موقفا متشددا من نظام الرئيس السوري بشار الاسد.
ولا يختلف الامر كثيرا مع العراق، الذي يصنف ضمن خانة "الهلال الشيعي". فبرغم قيادتها بالاشتراك مع الولايات المتحدة الامريكية للتحالف الغربي الذي أسقط نظام صدام حسين في نيسان 2003، فان موقف الحكومة البريطانية من حكومة "التحالف الشيعي" يبدو باردا ان لم يكن سلبيا الى حد كبير برغم الرغبة الكبيرة والتطلعات الشديدة لضمان مصالح بريطانيا في هذا البلد.
على الجهة المقابلة ترتبط الحكومة البريطانية بعلاقات وثيقة مع المملكة العربية السعودية وقد تجسدت ثمار هذه العلاقة من خلال توقيع عقود أقتصادية ضخمة عبر توريد اسلحة و بيع خبرات الى المملكة السعودية. كذلك الحال في ما يخص العلاقات بين بريطانيا ومملكة البحرين. فالعلاقات بين الطرفين لم تهتز كثيرا برغم المعارضة الشعبية الواسعة التي اجتاحت دولة البحرين. وكان لافتا موقف رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون حين رفض المقارنة بين الانتفاضة الشعبية في البحرين والحراك السياسي في سوريا. ولا يختلف المشهد كثيرا مع دول الخليج وكذلك الاردن. ان هذه الدول جميعها تشكل جزءا من "مجال المصلحة السياسية البريطانية" الموروث عن النظام الاستعماري القديم حث يطلق عليها حاليا "الجناح السني المعتدل".
ومن دون شك، فان بريطانيا، مهتمة بالحفاظ على مصالحها في هذه المنطقة الحيوية. لذلك فانها تستخدم جميع الوسائل السياسية لضمان سلامة مصالحها وعدم الاضرار بها، وكذلك من أجل التأثير على القوى المناوئة لها كي تغير من سياساتها. فهل يبدو خطاب البي بي سي العربي مناقضا للخط الحكومي السائد، أم انه مجرد اعادة صياغة لهذه السياسة؟
قناة البي بي سي العربي وتوظيف المشكلة الطائفية
ان المحاججة التي نقدمها هنا ان البي بي سي وبرغم كل مايقال عنها من تمتعها بالحرية الاعلامية، تبقى معبرا أمينا عن المصلحة السياسية الخارجية للحكومة البريطانية. وان معرفة الاتجاه السياسي البريطاني تقدم لنا الدليل للسلوك الاعلامي لقناة البي بي سي العربية. وليس أدل على ذلك من النظر الى علاقات بريطانيا مع ايران وسوريا والعراق وحزب الله وطبيعة الموقف الاعلامي لقناة البي بي سي العربي تجاهها من جهة وعلاقات بريطانيا مع السعودية والبحرين وتأثيرها على طبيعة الخطاب الاعلامي لقناة البي بي سي العربية من جهة أخرى. ان الخطاب الطائفي، يبدو هنا كأداة "ضغط" سياسي وهو في الوقت نفسه "بارومتر" لمعرفة مدى الترابط بين الاعلامي والسياسي.
بداية، لا تتوفر لدينا احصائيات دقيقة عن طبيعة الانتماء الديني للكادر الذي يدير محطة البي بي سي. لكن مع ذلك فان تركيزنا هنا ينصب على خطاب القناة سواء من خلال برامجها المتنوعة أو من خلال المتابعة الخبرية لموقعها العربي. ان هذين المصدرين يشكلان مادة التحليل والتقييم الذي يجري الاعتماد عليه هنا.
من نافل القول، انه لا يمكن المقارنة بين خطاب قناة البي بي سي العربي وبعض القنوات الدينية السنية أو الشيعية التي أصبحت تملأ الفضاء الاعلامي العام. لكن من جهة أخرى يمكن رسم مقارنة بين هذه القناة وبين قنوات اخبارية مماثلة مثل الجزيرة والعربية باعتبارها جميعا تعبرعن "مصلحة سياسية معينة".
ان القنوات التي تنطق باسم طائفة معينة تدافع في أغلب الاحيان عن مصلحة عقيدية دينية معينة، لكنها ليست بالضرورة متطابقة مع مصلحة الطائفة نفسها. فهناك قنوات شيعية تدافع عن أفكار مذهبية ومرجعيات محددة بينما تهاجم في الوقت نفسه ايران وهي الدولة التي تتبنى التشيع مذهبا رسميا للدولة.
من جهة أخرى، قد تتطابق المصلحة السياسية مع الايديولوجية الدينية لقناة ليست طائفية بالمعنى الحرفي. فقناة الجزيرة والعربية مثلا تتبنيان خطابا طائفيا صريحا مساندا للسنة في سوريا بينما تحرضان وبشكل صريح ضد الشيعة في البحرين، علما ان كلا الشعبين السوري والبحريني يطالب بالحرية والديمقراطية والاصلاح السياسي. ولا يختلف الحال في موقف هاتين القناتين مما يجري في العراق مقارنة بالموقف مما يجري في مناطق أخرى. فهاتين القناتين تحرضان على العنف في العراق تحت شعار "مظلومية السنة" بينما تتجاهلان قمع الحكومة السعودية لمطالب "الشيعة" في المنطقة الشرقية.
ان تطابق الخطاب الاعلامي مع المصلحة السياسية هو الذي يحدد سياسة القناة العامة. ولذلك فان الخطاب الاعلامي لهاتين القناتين، يبقى معبرا أمينا عن المصلحة الاقليمية للدول الراعية لها. وليس غريبا، ان تدافع الجزيرة القطرية أو العربية السعودية عما تراه "تهديدا شيعيا" للخليج. ان الترابط بين التضليل الاعلامي والمصلحة السياسية يقود الى اتباع خطاب اعلامي، تتحول فيه الطائفية الى اداة لكسر الخصم، بما يحقق المصلحة السياسية المنشودة.
كادر طائفي أم لغة طائفية؟
تبدو اللغة الاعلامية التي تطرحها البي بي سي على مستوى عال من الحرفية. فهذه القناة لا تمارس لغة القنوات "المذهبية". كذلك لاتقع البي بي سي في فخ "القنوات الاقليمية" مثل "الجزيرة" و"العربية" حيث تتولى القناتان الدفاع عن مصالح سياسات الدول الراعية لها (قطر والسعودية، على التوالي). لكن المتمعن في لغة القناة يجد انها ليست بمنأى عن التحيز المبطن أحيانا والصريح أحيانا أخرى.
واذا كان من الصعب في بعض الاحيان تحديد الجهة المسؤولة عن هذه "اللغة الطائفية" التي تنضح بها بعض تقارير البي بي سي العربي، فانه من السهولة تلمس آثار هذه اللغة. ان اللغة المستخدمة في القناة غالبا ما تفضح "الهوية الطائفية" لاصحابها برغم حرصهم على اخفاء هذه التوجهات. فليس صعبا ان تدرك هوية مراسل البي بي سي في بغداد (رافد الجبوري) المتعاطف مع الحراك الشعبي "السني". والشيء نفسه ينطبق على مراسل القناة في (اليمن) الذي ظهر في أحد تقاريره وهو يتحدث عن تهجير جماعة (الحوثيين) (للسلفيين) مشبها أياه بتهجيرالفلسطينيين على يد الاسرائيليين، خصوصا مع ما يعنيه هذا من اثارة للعواطف "السنية" المتأججة حقدا ضد "الحوثيين الشيعة".
وينطبق الامر أيضا على الاخبار والتقارير المكتوبة التي تنشرها القناة على موقعها العربي. فلغة التحرير تنضح بالتحيز ضد طائفة معينة. كما ان محتواها يتسم بالتضليل والتبرير، الامر الذي سيأتي بيانه.
تحليل اللغة
كما تقدم، فانه لا يمكن النظر الى قناة البي بي سي العربي كما ينظر الشخص الى قناة "صفا" أو "وصال" اللتين تمارسان لغة التحريض الصريح. كذلك لا يمكن مقارنة البي بي سي العربي بالقنوات الاخبارية المعروفة مثل "الجزيرة والعربية"، باعتبار الاخيرتين تمثلان مصالح دول أقليمية بينما البي بي سي معروفة باستقلاليتها لذلك ينظر اليها بأعتبارها أكثر موضوعية.
ان اختلاف موقع البي بي سي وسياستها العامة لا يخفي، مع ذلك، خصوصا للمراقب المتتبع، طبيعة اللغة الاعلامية التي تتسم ب"التعمية" و"التمويه" و"الخلط المقصود". لذلك فان اختلاف شكل "اللغة" و "المنهج" لا يخفي عمليا طبيعة النتائج المتحققة ما يكشف عن مصالح سياسية شبه متطابقة. وكمثال على ذلك، تلك اللغة التي استخدمها معد برنامج (أثير الكراهية) نور الدين زوركي. فلقد استخدم زوركي لغة التعمية الصحفية، لا كشف الحقيقة.
ان لغة كشف الحقيقة مهمتها "الوصول الى الحقيقة، من دون التستر عليها" ومثال عليها برنامج "بانوراما" الذي تعده قناة البي بي سي الانكليزية. فهذا البرنامج المشهور يسعى الى كشف الحقائق لا الى خلط الاوراق. اما برنامج (أثير الكراهية) والذي أعدته قناة البي بي سي العربي، فقد لجأ الى أسلوب الخداع والتعمية والخلط. فزوركي، لم يشرح المشكلة "الحقيقية" التي تحدث على الارض: مجموعات ارهابية تقتل المواطنين الابرياء بأسم الدفاع عن "حق السنة وكرامة الصحابة وشرف أم المؤمنين"، بينما في الطرف الاخر، قنوات شيعية تنغمس في جدل طائفي، يصل الى حد التهجم على الرموز "السنية".
واذا كان من الصعب تحديد السبب والنتيجة، على غرار تحديد أسبقية البيضة والدجاجة، فانه ليس من الصعب القول ان العملين ليسا متشابهين بكل الاحوال. فالقنوات التي تكفر الآخر تقدم عمليا الغطاء الشرعي للقتلة. اما القنوات التي تمارس سب الرموز الدينية، فأنها اذ تدعي ممارسة حرية الرأي، فأنها في الحقيقة تتجاوز ذلك الى مرحلة الاضرار بالاخر، من دون أغفال حقيقة انها تقدم من جهة أخرى خدمة كبيرة له. ان القنوات الطائفية، وبرغم عدائها الظاهري تقيم مصالح متبادلة، فهي تعيش على تعزيز "الكره المتبادل" لتبرير وديمومة سبب وجودها الذي يقوم على تأبيد هذا"الخلاف الطائفي".
لقد أهمل زوركي، من جهة حقيقة غلق الحكومة العراقية أحدى القنوات الاعلامية الشيعية بسبب خطابها المحرض، كما لم يشر، من جهة أخرى لا من قريب ولا من بعيد الى دور القنوات التلفزيونية العربية المحرضة على العنف، حيث لم تقم الدول العربية الراعية لها بغلقها. اما القنوات الطائفية "الشيعية" الموجودة في الخارج، فموضوعها يثير الشك وهي جزء من المشكلة.
لغة متواطئة
يصل الامر بقناة البي بي سي الى استخدام ما يمكن وصفه "اللغة المتواطئة". ان هذه اللغة المتواطئة تبرر الافعال التي يقوم بها طرف معين وذلك لانها تصب في خدمة طرف ما. وكمثال على هذه "اللغة المتواطئة" هو كيفية نظر البي بي سي الى أعمال الجماعات المتطرفة في سوريا، خصوصا المتمثلة في هدم المقامات الاسلامية والمسيحية فضلا عن جرائم الخطف والقتل المكشوف لرجال الدين. فالبي بي سي، لم تعط أي أهتمام يذكر لمثل هذه الجرائم، وذلك على ما يبدو لتشتيت الانتباه عن هذه الاعمال ولعدم توجيه الادانة الى المجموعات المتطرفة المسؤولة عنها. ولاشك، فان هذا النموذج يذكر بالمعايير المزدوجة التي تمارسها بعض القنوات الاعلامية ومنها البي بي سي في طريقة النظر الى القضايا المتماثلة. فتدمير طالبان لتمثال بوذا في أفغانستان، ألهب حماس الصحفيين والكتاب ودعاة حقوق الانسان وحفظ التراث الانساني في الغرب، حيث ساووا وقتها بين طالبان والاسلام بينما فضل هؤلاء الكتاب والصحفيون ممارسة الصمت تجاه أعمال مشابهة وقعت في سوريا، تحت مبرر نشر الديمقراطية في سوريا.
لغة تبريرية
يعد أسلوب التبرير، واحدا من أكثر الاساليب التي تمارسها قناة البي بي سي، والتي يمكن ان تكشف الى حد بعيد عن طبيعة المنهج "المتحيز". فلقد استخدمت قناة البي بي سي مرارا لغة "التبرير الطائفي" لاقناع القاري بقصة ما. فالقناة تقدم من خلال تقاريرها المكتوبة والمسموعة، ما يشبه المبررات "للعنف" الطائفي الذي يحدث في العراق وسوريا ولبنان وفي أماكن أخرى. ان أبرز مثال على ذلك، هو التذكير الدائم بوجود "المبرر الطائفي" ذاته.
ان اللغة التي تستخدمها القناة في "توصيف" التفجيرات الارهابية في لبنان والتي ضربت في غالبيتها مناطق شيعية، تخلق الانطباع بأن هذه المناطق هي "أهداف مبررة" كونها "تمثل معاقل نفوذ لحزب الله الشيعي" أي انها تقع في منطقة العدو الطائفي. ان هذه اللغة تمنح "الضحايا هوية افتراضية، لاعلاقة لها بالواقع اطلاقا". ذلك ان أغلب الضحايا الذين يسقطون نتيجة هذه العمليات الارهابية هم مدنيون لا علاقة لهم بحزب الله لا من قريب ولا من بعيد، حتى لو كانوا شيعة أو لبنانيين. وغني عن القول، ان هذه اللغة المستخدمة تشبه محاولة ربط قناة مفترضة، لهجوم ارهابي في لندن، بوجود" الجيش البريطاني في أفغانستان".
بل ان القناة ما برحت تستخدم لغة التبرير لوصف الهجمات الارهابية الانتحارية التي تجري في العراق وسوريا ولبنان، برغم الادانة الصريحة لمثل هذه الهجمات من الامم المتحدة ومختلف دول العالم. واذا كان ليس مطلوبا من القناة الاخبارية، ادانة الارهاب، فانه يبدو أمرا مستهجنا محاولة خلق انطباع يدافع عن مثل هذا الارهاب تحت أي مسمى. وكمثال على ذلك، محاولة تبني الرواية التي قدمتها المعارضة السورية عن بعض الهجمات على أعتبارها الرواية المقبولة لالقاء التهمة على الحكومة. فقد روجت البي بي سي لرواية المعارضة السورية حول دور الحكومة السورية في تصفية الشيخ العلامة محمد سعيد البوطي، بينما المعروف ان البوطي كان من المدافعين عن النظام السوري، ولا يتوقع ان يقوم النظام بتصفية احد اهم الشخصيات الدينية السنية المؤيدة له. ان حجم الجريمة التي هزت العالم الاسلامي واحرجت المعارضة السورية نفسها، قدمت المبررات للبي بي سي كي تقدم رواية المعارضة السورية على الرواية السورية الرسمية، في دفاع صريح عن موقف المعارضة.
يبقى أسلوب "الفرز الطائفي" واحدا من أكثر الاساليب رسوخا في قناة البي بي سي العربية. ان هذه اللغة المرتبطة بالتراث "الاستعماري الكولنيالي" تعيد الى الاذهان – خصوصا اذهان العراقيين- الدور البغيض الذي لعبه البريطانيون في ديمومة الانقسام الطائفي العراقي في مطلع القرن العشرين. ولعل أوضح مثال على اللغة الطائفية الصريحة التي تمارسها قناة البي بي سي العربية هو لجوءها الى التقسيم الطائفي للاحياء في بغداد خصوصا. ان القناة تذكر، سواء عن قصد أو من دون قصد، بالخطوط الطائفية وكأنها موجودة على الارض. ولمرات عديدة أعاد موقع القناة رسم الخريطة المذهبية لمدينة بغداد بما يضع العرب والمسلمين امام خرائط مذهبية لا قومية. ان هذه الخرائط لا تقدم وصفات للعلاج. انها تفعل العكس تماما.
لغة توصيف، حياد أم تحريض؟
أصدرت الصحفية الاميركية ديبورا آموس كتابا في العام 2010، يحمل أسم (سقوط السنة، القوة، المهجر والانتفاضة في الشرق الاوسط). والكتاب الذي يمثل مجرد شهادات ولقاءات صحفية عابرة جمعتها الصحفية خلال تنقلها في البلدان المجاورة للعراق، لا يحمل قيمة فكرية كبيرة اللهم بأستثناء عنوانه "الطنان". ان عنوان الكتاب، يحمل دلالات تحريضية معبرة خصوصا اذا ما وضعت في المجال السياسي والاوضاع السياسية المتداخلة التي تجري في الشرق الاوسط عموما.
ان اللغة "المحرضة" و "المستفزة" التي يمارسها الاعلام تخفي وراءها أهدافا سياسية كبيرة. ان هذا التوصيف ينطبق الى حد كبير على قناة البي بي سي، التي تستخدم لغة "الاستفزاز الطائفي" المقصود. فالقناة المذكورة ما تفتأ تحرض القاريء العربي لاشعوريا على اتخاذ موقف بين "المحور السني" (السعودية ودول الخليج والاردن وتركيا) و" المحور الشيعي" (ايران، العراق، لبنان وسوريا)، من خلال تذكيره المستمر، مثلا بهوية الحكومة العراقية "التي يقودها الشيعة والمدعومة من ايران" ما يبرر " الغضب السني ازاءها" في العراق، وربما أبعد من ذلك بما يقدم المبررات والحجج للمتطرفين السنة الذين يقفون على الحدود العراقية مع الاردن والسعودية وسوريا للالتحاق بأخوانهم "السنة الثائرين" في العراق. ان كثيرا من الارهابيين الذين ألقي القبض عليهم في العراق، يذكرون صراحة، تأثرهم بالصورة الاعلامية اتي تقدمها هذه القناة أو تلك. ولا شك ان اعادة انتاج صورة "القمع" الذي تمارسه "الحكومة التي يقودها الشيعة في العراق" ضد "الاقلية السنية" – اذا ما أستعملنا لغة القناة- على يد قناة ذات سمعة عالمية مثل قناة البي بي سي ما يمنح مثل هذه الادعاءات والمبررات درجة المصداقية لدى كثير من القراء.
ان قناة البي بي سي تمارس هنا سياسة "التعمية المزدوجة". فهي من جهة، اذ لا تتورع عن وصف الحكومة العراقية بكونها "حكومة شيعية" تطمس حقيقتين: أولا ان هذه الحكومة قد تشكلت عبر صناديق الاقتراع ومن خلال آلية ديمقراطية تدعمها جميع دول العالم، وثانيا ان العراقيين السنة يتمتعون فيها بتمثيل كبير يتجاوز ربما نسبتهم السكانية.
من جهة مقابلة، فان البي بي سي تخفي عمليا وصف "الحكومة السعودية السنية"، حيث لاوجود للشيعة فيها وكذلك الحال مع "الحكومة البحرينية السنية، التي تمثل الاقلية العددية في البحرين". ان تأكيد البي بي سي على الربط بين الحكومة العراقية و"مذهبها الديني" وتجاهل ذلك في ما يتعلق بالسعودية والبحرين، يكشف في جانب كبير منه، عن "الخطاب السياسي الرسمي المخفي" والذي تجهر به المنظومة الاعلامية بأعتبارها الاداة الناعمة لخدمة المصلحة السياسية.
وربما سيشير بعضهم الى تغطية البي بي سي العربي للوضع في البحرين. فلقد دأبت القناة على نشر أخبار المظاهرات والفعاليات السياسية المعارضة للحكومة البحرينية، بينما تجاهلت القنوات العالمية والعربية تحديدا هذه "الانتفاضة الشعبية". لكن الحقيقة ان خطاب القناة تجاه "القضية البحرينية" يشابه ما يسميه بيير بوردو "أخفاء المهم" و"حرف الانظار". فالبي بي سي العربي تقدم ما يحدث في البحرين وكأنه "انتفاضة شيعية طائفية"، لتسلبها حقيقة انها حراك جماهيري واسع لشعب أغلبيته شيعية، بينما تمنح صفة "الحراك الجماهيري" وبالتالي "الشرعية" لما يحدث في سوريا. لقد أكدت تقارير اعلامية كثيرة وأغلبها صادر من جهات غربية تحديدا، سيطرة المجموعات المتطرفة وجلها من غير السوريين على سير الاحداث في سوريا، بينما أقرت اللجنة الحكومية المشكلة من قبل حكومة البحرين نفسها على أن لا وجود لأي تورط أجنبي في "التحرك الشعبي في البحرين" برغم التشويش الاعلامي العربي وشبكات العلاقات العامة في دول الغرب. ببساطة، فان البي بي سي "تشوه" ما يحدث في "البحرين" برغم تغطيتها الاعلامية، بينما تقوم في المقابل بتجميل ما يحدث في "سوريا".ان هذا هو بالضبط ما يقصد بسياسة "الاخفاء" و"الانتقاء" في عملية تشويه الصورة بدل تقديمها بشكل صحيح. ومن الواضح، فان خطاب البي بي سي الاعلامي يرتبط بالمصلحة السياسية البريطانية العليا، حيث تتمتع الحكومة البريطانية بمصالح كبرى في السعودية والبحرين ،ولايمكن تصور ان تفرط الحكومة البريطانية بهذه المصالح عبر لغة اعلامية غير مضبوطة.
ان اللغة التي تستخدمها قناة البي بي سي العربية ليست محايدة لكنها في الوقت نفسه تتهرب من المساءلة القانونية .انها لغة لا تقف على مسافة واحدة من الاطراف على الارض، بل تتبنى لغة الشحن الطائفي بشكل مدروس و"مهذب". لكن هذه اللغة وتأثيراتها، تتجسد نتائجها يوميا على الارض، عنفا طائفيا في العراق وفي أماكن أخرى، حيث يتصاعد الشعور الطائفي والمذهبي الى مديات يستعصي معها التحكم بالآثار والنتائج.
ان البي بي سي تمارس لعبة اعلامية خطيرة، تمتزج فيها مشاعر الدين بالمصالح السياسية ورائحة المال ما يخلق صراعا اقليميا لا يمكن التنبؤ بنتائجه. ان هذه اللغة "الملغمة" تمنح المبررات لكثير من المتطرفين، الذين يعتقدون صحة وعدالة قضيتهم كي يمضوا الى اقصى حد في ممارسة عنفهم الدموي، والذي يخشى أن يضرب فيما بعد مدن أوروبا كما فعلوا بالامس القريب.
* مركز الدراسات الاكاديمية الشيعية/ لندن