من الأمور الجوهرية للتفاهم مع المجتمع الألماني، الذي قدمنا إليه ضمن البعثة العلمية، ومتابعة المحاضرات في الجامعة التي سندرس فيها علوم الهندسة وننال منها شهادتنا الجامعية، هو اللغة الألمانية التي علينا إتقانها.
لذا كانت الخطوة الأولى عند وصولنا إلى بون، حيث السفارة العراقية والملحق الثقافي، هو توزيع أعضاء البعثة على المدن التي في كل منها فرع من فروع معهد “غوتية” لتعلم اللغة الألمانية.
أصبح نصيبي ومعي ستة من الطلبة العراقين، أعضاء البعثة العلمية، معهد غوتة في مدينة “أرولزن”، وعند بدء الدراسة فيه تم إسكان كل واحد منا مع عائــــلة ألمانية كوسيلة من وسائل الإسراع في تعلم اللغة.
المدينة التي إستقر بنا المقام فيها، في أول مرحلة من مراحل بعثتنا العلمية، هي مدينة صغيرة، جميلة، فيها طريق رائع للتجوال على القدمين داخل خطوط متوازية عدة من الأشجار الباسقة، يقسمها إلى نصفين، يبدأ من بداية المدينة إلى نهايتها حيث يمتد ليدخل الغابة المحيطة بها من كل جانب.
كنا في فصل الشتاء، في شهر كانون الثاني، الجو بارد جدا، وقد بدأ الثلج يتساقط بكثافة بعد أسبوع من توزيعنا على العوائل لنسكن لديها، لبست الطبيعة قلنسوة بيضاء، وفي أول محاولة لي للمشي فوق الطريق الجامد، تزحلقت قدماي فجأة، ولم أجد نفسي إلا وأنا جالس فوق الثلج.
يقع معهدنا في بداية شارع مواز للطريق المشجر، على حافة الغابة، بدأنا نخطو خطواتنا الأولى في التعرف على لغة الألمان، ساعدنا السكن عند عائلة ألمانية وإضطرارنا إلى إستخدام لغة الإشارات أثناء وجودنا في المحلات للتبضع على االتعلم السريع للغة.
بعد مرور فترة قصيرة من وجودنا في هذه المدينة تعرف كل واحد منا على إحدى الفتيات من افراد العائلة التي يسكن لديها، أو أثناء الجلوس في المقهى أو شراء بعض القرطاسية والكتب أو أثناء الدخول في معركة بالكرات الثلجية مع طالبات الإعدادية القريبة من معهدنا، وكان لهذه الفتيات دور كبير في التعجيل لإستيعابنا دروس اللغة الألمانية!
الوحيد الذي بقي دون رفيقة يتسامر معها وتساعده على التعرف على الكلـــــــــمات الألمانية ونطقها الصحيح وتصحح له ما يتحدث به معها هو زميلنا “عمار السلامي”، وهو ذو جسم ضعيف مع إنحناءة خفيفة لظهره أثــــــــناء السير، قصير القامة نسبياً، يلبس نظرات سميكة لقصر نظره الشديد، يضع أغلب الأحيان طاقية صوفية سوداء على رأسه.
باءت محاولاته كلها للتعرف على إحداهن بالفشل الذريع، كلما جلس معنا يبدأ بندب حظه العاثر، يعزي سبب بقائه وحيداً إلى مظهره القميء، كما كان يصرح به دوماً.
جاءنا صباح أحد الأيام ،ونحن ننتظر الدخول إلى درس اللغة، فرحاً، يصيح: وجدتها وجدتها! وكأنه أرخميدس، كما أخبرنا التاريخ عنه حينما إكتشف نظرية الإزاحة، وحينما سألناه عن سبب فرحته وهل وجد رفيقته التي إنتظرها طويلاً، قص علينا حكايته:
” بالأمس عند الغروب وقفت دون نظاراتي على الرصيف متكئاً على الجدار، قريباً من بوابة السينما قبل بدء العرض المسائي للفيلم، كلما دنت مني فتاة من أية جهة لتعبرني أو لتدخل صالة السينما أغمز لها، مرت الواحدة تلو الأخرى دون أن تلتفت لغمزاتي، بدء الملل يسري في كل كياني، وبدأت المرارة تملأ فمي، رغم ذلك بقيت صامدً، وقبيل بدء العرض مرت أمامي فتاة شقراء طويلة نسبيا، غمزت لها، مرت كغيرها دون أن تعيرني إهتمامها، إلا أنها فجأة إنتبهت لي فرجعت علي تسألني، هل إن عيني مريضة، لماذا لا أذهب إلى الطبيب، تلعثمت في الرد عليها، إعتقدت أني لا أعرف التكلم بالألمانية بتاتاً، كررت علي ثانية بضرورة ذهابي إلى طبيب، أعطتني رقم هاتفها وطلبت مني الإتصال بها إن كنت بحاجة إلى مساعدتها.”
إنقطع حديثه لنا لأن الوقت أزف للدخول إلى حصة الدرس.
مقالات اخرى للكاتب