مع أن المشهور عند دعاة حقوق الانسان الحديث عن حقوق المواطن تجاه الدولة، لكن مثل هذا الحديث لا معنى له ما لم يقابله التزام اجتماعي وقانوني وسياسي وأخلاقي من المواطن إزاء علاقته بالدولة ممثلة بسلطتها العليا وأجهزتها المختلفة.
كذلك لا معنى أيضا للحديث عن حق الدولة على المواطن ما لم يقابله التزام حقيقي للدولة (السلطة) بتوفير حقوق وحريات مواطنيها، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، بغض النظر عن العرق، الجنس، القومية، والديانة وما شابه.
إذ لا شك أن الشراكة في الارض والولادة والعيش فيها، والانتماء إلى موطن محدد من قبل مجموعة من الناس يستتبع وجود حقوق وواجبات على المواطنين، كما يستتبع وجود حقوق وواجبات على السلطة التي تدير المواطنين وتمثلهم في المحافل الوطنية والاقليمية والدولية.
فمن الواجبات الحكومية تجاه مواطنيها هو واجب حمايتهم وحماية ممتلكاتهم وتوفير الامن والاستقرار والهدوء لهم، والدفاع عنهم، وضمان الحريات العامة كحرية السكن والتملك والعمل والتنقل وإبداء الرأي. وتوفير التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وإقامة المرافق العامة كالنقل والاتصالات ووسائل الإعلام المختلفة والكهرباء والمياه، وتحقيق العدالة بين الناس، وتأمين ضمان اجتماعي لمواجهة حالات الشيخوخة والعجز والمرض، وتوفير السكن الملائم لكل مواطن وغيرها من الواجبات التي تتكفل بها السلطة لضمان حياة المواطن وتوفير احتياجاته.
أما الواجبات التي تتطلّبها المُواطَنَة من المواطن، فهي واجب المحافظة على المال العام المتمثل في المرافق العامة كالمدارس والمستشفيات، والطرق، والجسور، والحدائق والمكتبات العامة ونحو ذلك، واحترام القوانين والأنظمة والتعليمات، والتعاون مع أفراد المجتمع وإشاعة ثقافة المحبة والتراحم والتسامح بين المواطنين، والمشاركة في تنمية الوطن، ودعم المنتجات الوطنية، ومساهمة رجال الأعمال في توظيف شباب الوطن في مؤسساتهم وشركاتهم. وتدبير الاختلاف بالحوار، وتقدير الآخر واحترامه مهما كان انتماؤه العرقي أو الديني أو السياسي أو الثقافي، وعدم اللجوء إلى العنف وإشاعة الفوضى وحمل السلاح خارج إطار القانون أو الجهر بالفساد الاجتماعي، ونحو ذلك من الواجبات الملقاة على المواطن إزاء وطنه …
ان الحصول على الحقوق وأداء الواجبات هي مسؤولية تضامنية بين المواطن والدولة، بين المحكوم والحاكم، بين الشعب والسلطة، فلا يمكن تصور حصول المواطن على حقوقه دون قيامه بواجباته، ولا يمكن تصور حصول السلطة على حقوق الطاعة دون قيامها بواجباتها، وإن كان الفعل الاول يقع على عاتق السلطة والحكومة لما تتمتع به هيبة وقدرة تمنحها المكنة على تحصيل الحقوق وفرض الواجبات.
إذ يتعين على السلطة في كل الاحوال والاوقات أن تكون هي المبادرة في توفير وضمان حقوق المواطنين الاساسية التي كفلها الدستور (القانون الاساسي للدولة) أو القوانين الوطنية الاخرى، فكل حق ضمنه الدستور للمواطن يجب أن يكون مقدما ومضمونا في سياسات السلطة وسلوكها على نحو من شأنه أن يحفظ المواطنين من السقوط في براثن التعسف والظلم والإستبداد.
فاذا قلنا مثلا: يحق لكل مواطن أن يتمتع بالحرية والحصانة والأمن الشخصي، فان من واجب الدولة واجهزتها أن تضمن هذا الحق، ولا يحق لأي شخص كان أن يقوم بالإعتداء على هذه الحقوق والحرمات، حتى لو كان هذا الشخص من أفراد عائلته أو من الناس الآخرين المقربين إليه.
وإذا قلنا: يحق لكل للمواطنين أن يؤمنوا بأي دين يعتقدون فيه وأن يمارسوا الشعائر الخاصة بهذا الدين فان من واجب الدولة ضمان وحماية هذا الحق والسعي لإنجازه دون قيود أو تضييق. وإذا قلنا: يحق لكل مواطن أن يؤسس إتحاداً أو رابطةً، وأن يشترك عضوا فيها، وأن يشارك في ممارسة أنشطتها وفعالياتها، وأن يمتنع عن المشاركة في أي إتحادٍ إن لم يرد ذلك، فلا يمكن للسلطة ولا لغيرها أن تمنعه من استعمال هذا الحق وتقييده.
لكن ما يجب أن نلتفت إليه في العلاقة بين المواطن والسلطة من حيث الحقوق والواجبات، أن تلك الحقوق وتلك الواجبات عادة ما تكون متداخلة مع بعضها البعض، بحيث يصعب فصلها وتمييزها.
فقد يكون هناك اعتراف صريح أو ضمني من قبل الدولة بواجباتها ازاء مواطنيها بحسب دستورها وقوانينها، وربما يكون هناك اعتراف ضمني من قبل المواطنين بواجباتهم ازاء الدولة ممثلة بأجهزتها السياسية والادارية والخدمية، ولكن دائما هناك شكوى للمواطنين بان الدولة إما انها لا تعترف بحقوقهم أو انها تعترف ولكن لا تنفذ عهودها ومواثيقها أو تنفذ بعض الحقوق والحريات دون الاخرى، أو تفرق بين مواطنيها من حيث الحقوق والحريات؛ فتمنح بعض مواطنيها حقوقا وحريات اكثر من البعض الاخر، مثل: تمتع الاكثرية بحقوق على حساب الاقلية أو تمتع شريحة سياسية بحقوق أكثر من الشرائح الاجتماعية الاخرى، كما لوكان حزب ما حاكما فان المنضوين تحت راية هذا الحزب يتمتعون في العادة بحقوق تفوق حقوق المواطنين العادين.
وتأتي الشكوى أيضا من أجهزة الدولة بان المواطنين أو بعضهم لا يتقيدون بالقوانين والانظمة، ولا يحترمون افرادها وعناصرها، ولا يميزون بين ما هو حق لهم أو حق عليهم، أو لا يأبهون بحقوقهم وحرياتهم ويسمحون للآخرين بالتجاوز عليها دون اللجوء إلى القضاء والشرطة، ولا يسلكون الطرق القانونية في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم ويستخدمون العنف والسلاح مع بعضهم الآخر ومع الدولة وغيرها.
هذا يعني أن التداخل والتضارب بين ما هو حق للمواطن وبين ما هو واجب عليه، وبين ما هو حق للدولة وبين ما هو واجب عليها، أو بين ما هو حق لهذا المواطن أو ما هو واجب على المواطن الآخر -إذا تجاوزنا مرحلة النص على هذه الحقوق، وقلنا إنها من المسائل المسلمة لكل الشعوب والدول في عصر التطور في مجال النص على الحقوق والواجبات- هي مسألة في غاية الاهمية والدقة، وتعتبر من المسائل ذات التأثير البالغ في تحديد العلاقة بين المواطن والدولة أو بين المواطن والمواطن الاخر واستقرارها.
فالحق في التظاهر مثلا يتضارب مع حق وحرية الحركة، والحق في حرية التعبير والحصول على المعلومات يتضارب مع الحق في الخصوصية، والحق في ستر الحياة الشخصية، وتطبيق حقوق الانسان يتضارب احيانا مع أهداف ضرورية أخرى للدولة، والحق في الحرية والمبادرة الاقتصادية تتضارب عمليا مع اهداف اجتماعية مثل تقليص الفجوات بين المواطنين في الدولة.
واحترام حقوق المجموعات والاقليات الدينية أو العرقية أو المذهبية قد يتضارب مع حقوق عموم المواطنين في الدولة لان مصدر حقوق المجموعة يختلف عن مصدر حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان تخص الانسان كونه انسان وعلى كل دولة أن تحمي هذه الحقوق للفرد أو الجماعة الذين يعيشون فيها، أما حقوق المجموعة فهي ليست خاصة بالانسان كفرد وانما هي للفرد جزءا من المجموعة وهكذا...
وبحسب رأي البروفيسور " دافيد كريستمر": لا يمكن البحث عن تناسق بين حقوق الإنسان الأساسية، تلك التي يحق لكل إنسان الحصول عليها من حيث إنه إنسان وبين الواجبات المفروضة على الأفراد بقوة القانون. فحقوق الإنسان تابعة للإنسان كونه إنسان، والإنسان الذي لا يقوم بالواجب المفروض عليه بقوة القانون يمكن أن نفرض عليه عقوبة منصوصة في القانون. فمن ارتكب مخالفة سير مثلا سيدفع غرامة او تسحب منه رخصته لكن لن تمس حقوقه المدنية او حقه في الحصول على مخصصات التامين الوطني.
عليه إننا وكل المعنيين بشؤون حقوق الانسان وواجباته مطالبون بحل هذا التداخل والتضارب في الحقوق والواجبات بين ما يجب أن يكون للمواطن كحق طبيعي له لا يجب الاعتداء عليه، وبين ما يجب أن يكون للدولة كحق مفروض بحكم سلطة القانون، والبحث عن حالة توازن تضمن المحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان وتطبيق الواجبات المفروضة عليه بما يضمن حماية المواطن والمجتمع معا.
مقالات اخرى للكاتب