الكذب صفة ذميمة وصاحبها منبوذ، والشخص الذي يُمارس الكذب ويَعرف عنه الآخرون هذه الصفة يُقابل بالتهميش والإقصاء ويفقد ثقة المحيطين به والقريبين منه، هذا على المستوى العام فالثقافة السائدة في المجتمع تُقصي الأشخاص الذين يمارسون هذا الفعل وتضعهم في أدنى مراتب السُّلم الاجتماعي، لكن هناك كذب آخر يرتدي لبوس المسؤولية والعطاء والإخلاص أصبح جزءاً من ثقافتنا الإدارية وأعني الثقافة السائدة في مؤسساتنا الإدارية، فالقيم والممارسات التي تشكلت في بعض أجهزتنا الإدارية هي مزيج من مؤثرات مختلفة ومتباينة، فالإدارة بمفهومها الحديث القائم على النظام والقانون جاءت مُصادمة لمجموعة العلاقات والقوانين الاجتماعية التي تحكم علاقة الأفراد ببعضهم والتي تقوم في جانب كبير منها على قيم القبيلة والقرية بما تحمله هذه القيم من أسس تعتمد على التراتبية والأبوية والتمايز، هذا الاختلاف الجذري بين قيم الإدارة الحديثة وقيم القبيلة والقرية خلق ثقافة إدارية هجينة تحكمها الممارسات السلبية، فمفاهيم مثل "الواسطة" و "كتابة العريضة" و "مقابلة المسؤول" و"الحاشية الإدارية" والسعي إلى الحصول على "الاستثناءات وكسر الأنظمة" هي قيم مستمدة من ثقافة اعتادت على التراتبية والهبات، ولم تتشرب بعد قيم النظام والواجبات لذلك شاعت أنماط سلوكية من نوع النفاق الإداري والاستجداء والتزلف ومن خلالها ارتقى إلى مراتب المسؤولية أشخاص تنقصهم الكفاءة والقدرة والجدارة فاستعاضوا عنها بالتضليل والهالة الإعلامية الخادعة، فأصبح إعطاء نصف الحقيقة وحجب النصف الآخر جزءاً من سلوك بعضهم وممارساتهم، وأعني بالكذب والتضليل الأسلوب الذي تنتهجه بعض القطاعات الحكومية ومسؤوليها في الحديث عن مهامها ومسؤولياتها وأعمالها، فالرسائل الإعلامية التي تضخها هذه القطاعات عبر وسائل الإعلام المحلية هي رسائل مثقلة بالإنجاز والتفاني والإبداع والتطور، وجميع برامج هذه الجهات ومشروعاتها ناجحة ومتميزة وتحقق الأهداف المرجوة منها وربما حصلت على جوائز عالمية ومحلية، في حين أن واقع هذه القطاعات يقول خلاف ذلك؛ فالميدان العملي الذي يتماس بشكل مباشر مع المستفيدين من الخدمة أو المعنيين بها يختلف عن الصورة الناصعة التي تقدمها هذه الجهات إلى الرأي العام، والمشكلة أن هذا الخطاب المخادع لا يقتصر على الجانب الإعلامي وإنما يتجاوزه إلى ممارسة التضليل على الجهات الرسمية، ويتجلى ذلك في تقارير الأداء التي تسميها القطاعات الحكومية تجاوزاً "تقارير الإنجازات"، فالعنوان يوحي بأن الجانب الذي سيقدم في هذه التقارير هو الجانب الذي يوصف بالإنجاز والتميز، أما الإخفاقات والارتجالية والتجريب فليس لها مكان في هذه التقارير، والغريب أنه لا يوجد في قاموس هؤلاء المسؤولين مشروع أو برنامج متعثر أو فاشل أو خلافه، فكل شيء على ما يرام، وهذا يعني في أبسط الأحوال أن هناك مشروعات وبرامج فاشلة ومتعثرة قائمة ومستمرة ما يعني مزيداً من الهدر المالي والبشري.
وإذا كانت الممارسات السلبية تشوه بيئاتنا الإدارية وتحول دون شيوع ثقافة النظام والجدارة والمسؤولية، وتلقي بظلالها الداكنة على مستوى وجودة الأداء والإنتاج والمخرجات، فإن بروز ظاهرة التضليل من بعض المسؤولين التنفيذيين في القطاعات الحكومية يضرب في عمق المشروع التنموي، ويتعارض مع المنهج الذي تتبناه القيادة العليا في الإصلاح والمكاشفة والشفافية والوضوح.
أعود إلى السؤال المطروح في العنوان..عندما يكذب المسؤول؟ وأميل إلى الإجابة التي تقول بأن المسؤول يكذب ويستمرئ الكذب لأنه لا يجد في الإعلام من يقول له بأنك تستحق المحاسبة على هذا التضليل، ولا يجد من يذكّره بتصريحاته وأقواله ووعوده المتناقضة، ولا يجد من يقارن بين خططه أو خطط الجهة التي يقودها وبين النتائج التي حققها على أرض الواقع وليس على الورق وفي وسائل الإعلام.