القول بانحسار الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية اليوم شيء ملموس يدركه الكل ولا يحتاج لبرهان للدلالة، بل يمكن ملاحظته لدى من حمل هذا الهم من نخب وقوى يسارية وقومية وإسلامية وكان جزءا من برنامجه وخطابه حتى عاشت القضية بين مهامه ودائما ما تماهى لديهم الوطني والفلسطيني لغايات يعتقد أنها لمصلحة الاثنين معا، فما الذي حدث لتتراجع القضية اليوم تراجعا حادا وتتراجع صورة العدو ليحل من يمتلك ذات الخطاب وينادي بنفس القضية عدوا جديدا.
لم تعد فلسطين اليوم الطبق الرئيس على مائدة العرب فقد احتل اليومي والمعاش لديهم الصدارة، وعندما نطلق تلك المقولات العامة في تفاصيل الحياة "النسبية" تفقد بريقها ووهجها فاختلط العام بالتفاصيل المعاشة زمانا ومكانا لنكون كما وصف الراحل رفعت السعيد كمن يستخدم صاروخا عابرا للقارات لاصطياد طائر فأثار سخرية الناس ولم يصب الطائر؟ كذلك حاولت الحكومات الدكتاتورية التي كانت تعتبر نفسها ذات يوم حركات تحرر وبنت تحالفاتها الدولية على هذا الأساس فاقتنصت بهذا الخطاب معارضيها وبررت احتلال دول وممارسات استبدادية. ولم يعبأ معارضيها نتيجة القهر والاستبداد السلطوي الذي شوه هويتهم بالقضية ومنهم من تطرف ضدها طالما تلك الراية كان تحتها قتلى وسجناء ومقموعين فمن يثور على الدكتاتور يحتاج لمبتناه الفكري الذي ينسف به خطابه ويحتاج إلى التثقيف بأولوياته التي تعلو تقديس غيرها من القضايا ويحتاج الى الانشغال اكثر بـ"حريقه الداخلي".
عدالة القضية هيأ لها مؤمنين ومدافعين من شتى أنحاء العالم اتفقوا على مكافحة هذه الظاهرة الشاذة بتشريد شعب واحتلال أراضيه برعاية دولية مشبوهة وتوظيف لأساطير دينية. لكن تلك المعادلة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية زمنا لم تعد صالحة اليوم، وذلك الخطاب العتيق والشعارات باتت لافتة طاردة أكثر منها دعوات تعبئة ومناصرة، ارتقت قضايا حركة التحرر الوطني إلى هم أساسي وثوري لرومانسيين وثوار حقيقيين ونخب في العالم بعد انتصار السوفيات ودور الجيش الأحمر في القضاء على النازية في الحرب العالمية الثانية وما أعقبه من نهوض لقوى شعبية واحيانا استلامها السلطة فعليا فبسط الأمل لكل القوى الشعبية وحركات التحرر في العالم بانتصار قضاياهم العادلة ومنها حركة التحرر الفلسطينية ونضالها ضد الكيان الصهيوني .
أمران ترافقا مع ممارسات الأنظمة الدكتاتورية العربية ومعارضيها على حد سواء لينظر بعدها لأنصار القضية "قومجي منقرض" أو "يساري عتيق "الأول تمثل بصعود الدول النفطية مراحل متقدمة في سلم النفوذ الاقليمي لتمارس ضغوطا على الحركات الفلسطينية نيابة عن الولايات المتحدة لانخراطها في اتفاقيات سلام لم تنضج ظروفها فلسطينيا ولا عربيا لمصلحة فلسطين وامتلاكها لوسائل إعلام كانت رسالتها طائفية تسيد فيها شيوخ الفتنة ليظهر سبب بلائنا في الألفية الثالثة وفشل التنمية والاعمار مرتبطا بلحظة ركوب عائشة الجمل او خروج ابن العلقمي للمغول؟ والثاني مرتبط بالاول حين نشط الاسلام السياسي ومن عوامل ظهوره هو فشل اليساريين والقوميين والانظمة العربية وهزائمها المتكررة امام اسرائيل، فهم الاسلام السياسي الدرس واستوعبه جيدا واستقرأ حجم معارضيه والتوازنات الدولية لصالح بقاءه في السلطة فاختار القفز على القضية وشطبها من برنامجه.
تختلف القضية بين بلد وآخر وان بقت وجدانيا تحتل مكانة عظمى في بلدان عربية ومسلمة واشتراكية لكنها تختلف في بلدان التماس "مصر ولبنان وسوريا والأردن" عنها في بلدان اخرى، هناك اراضي محتلة في سوريا ولبنان ومجتمع فلسطيني في الاردن وحروب واتفاقيات لا تحظى بدعم شعبي وصورة عداء منمطة في مصر، مع تراجعها في العراق وبقية الدول وهو عائد الى حكم او تنفذ الاسلام السياسي اضافة الى الصورة السيئة لبعض الحركات الفلسطينية التي اصبح بعضها بنادق للايجار وضرب بقية الحركات وتفتيتها مع ما قامت به الحركات الفلسطينية من تدخل سيء في شؤون البلدان الأخرى لاستجلاب الدعم ودون النظر لاستراتيجية المقاومة.
الحاجة اليوم ملحة لاجتراح خطاب فلسطيني، خطاب يقترب من لغة اليوم ولا يبتعد عن عدالة القضية او يخلق ضبابية في صورة المعتدي ويقوم على رفض التطبيع.. لغة اليوم تعتبر من كل سدنة الفشل تجاه هذه القضية وعدم تكرار نمطهم المنبري وظواهرهم الصوتية لغة تبتني خيارا متوافقا مع خيارات الفلسطينيين وامكاناتهم ولا تزايد عليهم، فغياب الحاضنة الاقليمية اليوم عن مسار القضية الفلسطينية يدفع الفلسطينيين لخطورة عقد اتفاقيات استسلام واذعان مع كيان مزروع في المنطقة يحمل من العداء لنا الكثير ولم يفعل كما فعلنا يوما باسقاطنا من حساباته.
مقالات اخرى للكاتب