لم تكن قصة النبي ابراهيم مع ولده اسماعيل عليهما السلام، اول قصة في ملحمة الفداء التي عاشها. كانت في حياته قصة اخرى لا تقل عنها جسارة او قدرة على المواجهة الباسلة للمصير. وهو في هذه القصة لم يُقّدم على ذبح أبن آخر من ابنائه، تنفيذاً لحكم سماوي او تجسيداً لرؤيا من رؤى الغيب، ولكنه اقدم على عمل من وحي عقله الخالص كان يمكن ان يضعه في ذات الموقف الذي وضع هو فيه اسماعيل، ولكن على ايدي اعدائه في الفكر والعقيدة.
يومها كانت الاصنام تُعبد في وطنه، وكان السذج والمظللون يقدمون لها القرابين، ويركعون عند اقدامها التي صنعت بايديهم من الرمال والطين، ولم يكن الخروج على منطق الاصنام حينذاك امراً معروفاً او مألوفاً فضلاً عن يكون مسموحاً به.
كانت تماثيل الرمال والطين تمارس على البشر أشد ألوان القهر والطغيان. ولم يكن البشر في تلك المنطقة من العالم قد اكتشفوا بعد في انفسهم مللكة النقد او القدرة على التفكير، ما كانت جموعهم تعرف آنذاك الا ملكة واحدة هي ملكة التقليد، وما كانت ارادتهم تدرك ان ثمة مجرى آخر لافعالها غير الانصياع والخضوع. ولم يكن السؤال قد طرح بعد حتى ذلك الحين. وكان لا بد ان يطرح على يدي ابراهيم "ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون"، وكان السؤال مثل الزلزال في نفوس المؤمنين بها، فلقد اصابهم بالقلق والحيرة وعصف في اعماقهم بكل راحة اليقين، قالوا "وجدنا آباءنا لها عابدين" قال ابراهيم "لقد كنتم انتم وآباؤكم في ضلال مبين".
لم يكتف ابراهيم بطرح السؤال، تجاسر وحطم الاصنام الخاوية، ووضع الاجابة العملية التي عّزت على الواقفين من حولها حيارى مضّيعين، وثار المؤمنون البسطاء، واهتاج اصحاب المصالح الحقيقية في بقاء الاصنام واستمرار سطوتها على العقول، واحدقوا به من كل حدب وصوب، وطالبوا بالقائه طعاماً للنيران، ولكن ابراهيم وقف صامداً، لم يهتز له جفن، كان يحس انه اقوى منهم جميعاً، فلقد رأى فرائصهم ترتعد من فرد واحد كان لا يملك شيئاً سوى الحقيقة.
وسقطت الآلهة المزيفة التي حكمت عقول البشر ردحاً طويلاً من الزمان، تهاوت على عروشها تحت وطأة السؤال أكواماً من الطين والرمال، وانتصر العقل على نظام كان لا ينهض الا على قوة الزيف، وعلى عصر كان يقف كالصخرة الصماء في وجه تطور التاريخ.
مقالات اخرى للكاتب