يجب أن نحتقر من يحتقرنا ولا يقيم وزنا لكرامتنا. نعم احتقار المواطن للسلطة واجب تحتمه عليه مسؤوليته تجاه كرامته، ولازم من لوازم العدل، كتعبير عن التعامل بالمثل.
شعور مزدوج غمرني في معاناتي، وأنا متوجه مع زوجتي من مكان إقامتنا في بغداد إلى المطار، مسافرين إلى هامبُرڠ - ألمانيا بالخطوط التركية عبر إسطنبول. من جانب انتابني شعور بالغضب والأذى والإحساس بأن كرامتي كإنسان وكمواطن مهانة، وآدميتي محتقرة من قبل المسؤولين، أو السياسيين أصحاب النفوذ. ومن جانب آخر انتابني شعور بالفرح والسعادة ونشوة الافتخار، لأني لا أتبوأ موقعا يميزني عن غيري، كي أتمتع بفرصة الإحساس، ولو بالبعض اليسير والضئيل من معاناة المواطن.
صدقوني لم أكن غاضبا لنفسي ولزوجتي، بقدر غضبي للإنسان العراقي، الذي تتوالى عليه الإهانات، وصور سحق الكرامة، واللاإحساس بمعاناته اليومية من قبل السلطة. سلطة حقيرة بمعنى الكلمة، لأنها قد انتزعت من قلبها وضميرها أي إحساس بكرامة الإنسان العراقي. في هذه اللحظة أعطيت الحق لصديقي الناصر دريد سعيد، لإصراره عند ظهوره على الفضائيات على استخدام مصطلح «الطغمة»، أو «طغمة المنطقة الخضراء»، عندما يتحدث عن السلطة المتسلطة (ديمقراطيا؟) على مصائر هذا البلد وهذا الشعب. فهي حقا سلطة حقيرة تستحق الاحتقار بمقدار احتقارها لنا.
كل المسافرين في البلدان المتحضرة، ونصف المتحضرة، وربع المتحضرة، يذهبون مع مودعيهم إلى مبنى المطار، إلا نحن يجب أن يودعنا مودعونا عند هذا المسكين أبو خضير ابن فرناس الذي يتأهب للطيران، يريد أن يطير ولم يطر، ولن يطير، ما زال قد صنع لنفسه جناحين من ريش لصقه بالشمع، وهو لم يدرك أن الشمع يذوب بحرارة الشمس. ننزل عند عباس ابن فرناس، هذا الطائر الذي لن يطير، لنركب الباصات، ولننزل مرات ومرات، ونفتش مرات ومرات، ويجب علينا أن نحمل حقائبنا ونجرجر بها مرات ومرات، ونفتحها للتفتيش مرات ومرات، وتفتش جوازاتنا مرات بعد مرات، وندخل في الطريق مجرجرين حقائبنا غرف التفتش، التي روعيت بها الضوابط (الشرعية؟)، بالفصل بين المسافرات والمسافرين، فلا بد أن يدخل الابن غرفة تفتيش غير غرفة تفتيش التي تدخلها والدته، ويدخل الزوج منفصلا عن زوجته، فلا يستطيع الابن مساعدة أمه، ولا الزوج زوجته، أو الأخ مساعدة أخته، في رفع الحقائب إلى فوق مناضد التفتيش.
ونصل المطار، ولا ننزل عند بوابته، بل بمسافة يجب أن نمشيها مجرجرين حقائبنا، إذا لم نسرع لنحصل على عربة بسبب شحتها وعدم كفايتها. وعلى ذكر عربات نقل الحقائب، فلا بد من ذكر الإنجاز العظيم الذي حققه (العميد) هادي العامري وزير المواصلات، بشراءه عربات حقائب مستعملة من إيران، كُتِب عليها باللغة الفارسية عبارة تبين عائديتها لمؤسسة إيرانية رسمية للسفر والحج والعمرة والزيارة، أو شيء من هذا القبيل.
المسؤول من حقه ألا يعلم بما يعانيه المواطن، عندما يسافر من مطار بغداد الدولي، الذي هو ليس إلا عبارة عن (علاوي الحلة) الجوي. المسؤول، وزيرا كان، أو وكيل وزير، أو نائبا، أو زعيما سياسيا لحزب من أحزاب السلطة والنفوذ، المسؤول هذا عندما يسافر، لا يمر بكل هذه المراحل المهينة، ربما لأنه مستغنٍ عن يتعرض للإهانة، كونه يتمتع بما يكفي من الهوان والحقارة والسفالة الذاتية. المسؤول لا يراجع الدوائر الحكومية مثلنا نحن المواطنين العاديين البؤساء، ليرى بؤس وتخلف الروتين، وعجائب وغرائب المعاملات، وانعدام الذوق والمدنية على جميع الأصعدة في الدوائر الرسمية. المسؤول لا تغوص أقدام أطفاله في الطين والوحل عند كل مطرة. المسؤول لا تنقطع عنه الكهرباء، لا صيفا ولا شتاءً، لا ليلا ولا نهارا. المسؤول غير مضطر أن ينام على ضوضاء، عفوا موسيقى المولدات.
أما إذا أردنا أن نتكلم عن معاناة الفقراء والمحرومين والمسحوقين، في بلد هو من أثرى بلدان العالم في موارده الطبيعية. إذا أردنا أن نتكلم عن بيوت الطين والصفيح، إذا أردنا أن نتكلم عن الحرمان من الماء النقي، وغيره من مستلزمات العيش الكريم، ولو بحده الضروري الأدنى، لطال الكلام.
وفوق كل هذا اعتقالات عشوائية، بلا محاكمة، ولا تهمة، وتعذيب، واغتصاب. وفوق كل هذا يصر على شيعيته، كما يصر خصمه، سواء كرد فعل أو كفعل، هو الآخر على سنيته. تارة لكون المسؤول يحمل ثقافة متخلفة، يضع أولوية الانتماء للطائفة، متقدما على كل المعايير، وتارة لدغدغة مشاعر أبناء طائفته، ليحصد منهم الولاء والهتافات والأصوات عند الانتخاب.
نرى من الذين يديرون شؤون الدولة والبلاد من هم عملاء لإيران، ومن معارضيهم من هم عملاء لتركيا وقطر والسعودية. هذا حنينه لإيران الخمينية، وذاك حنينه للماضي البعثي الصدامي.
المسؤول مهتم بالدرجة الأساسية بخدمة نفسه، هذا أولا، وبخدمة نفسه ثانيا، وبخدمة نفسه ثالثا، ثم بخدمة أسرته، وأقاربه المقربين، ثم خدمة أفراد حزبه، وخدمة طائفته، وفي أحسن الأحوال، إذا ما تجرد عن الطائفية، فبخدمة عشيرته. يخدم إيران أولا، أو يخدم تركيا وقطر والسعودية أولا. أما الوطن، أما العراق، أما الإنسان العراقي، أما تقدم البلد، أما رفع مستوى الفرد العراقي، أما تطوير العملية الديمقراطية، أما مراعاة حقوق الإنسان، أما توفير الخدمات، أما صيانة الحريات، أما ...، فكل ذلك كان عنده نَسْياً مَنِسيّاً.
يا عراقيين، احتقروا مسؤوليكم، حاشا للاستثناءات من الوطنيين إن وجدوا. احتقروا الذين يحتقرون إنسانيتكم، ويهينون كرامتكم. انتفضوا لكرامتكم، ثوروا عليهم. لكن لا تجعلوها ثورة سنية، أو انتفاضة شيعية. كونوا عراقيين عندما تثورون عليهم. كونوا عراقيين، ولا تكونوا إلا عراقيين. أما إذا بقيتم شيعة هنا، وسنة هناك، وكردا هنالك، أو عربا، أو تركمانا، فلن تستطيعوا بناء مستقبلكم، بل ستضيّعون مستقبل الأجيال القادمة. عندها ستوقفنا محكمة التاريخ، إنا عندئذ مسؤولون ومدانون وملعونون، إذا ما فرطنا بمستقبلها عن عمد أو عن لامبالاة. لذا كونوا عراقيين فقط، وفقط وفقط. استحضروا عراقيتكم، واستحضروا إنسانيتكم، لا هويتكم الطائفية، أو قوميتكم، أو عشيرتكم، أو انتماءكم الديني.
متى ما جسد المواطن العراقي عراقيته، ومتى ما استحضر الإنسان العراقي إنسانيته، وانتفض لإنسانيته، لكرامته، لحقوقه، لحرياته، لمستلزمات عيشه الكريم اللائق بآدميته، ولم يعد يوالي طائفيا، بل يوالي ويؤيد بمعايير المواطنة والوطنية، وبمقدار تحلي من يواليه ويؤيده بالإنسانية، وبمقدار وطنيته، وبمقدار نزاهته وكفاءته. عندها سنكون قد وضعنا الخارطة الصحيحة لبناء صرح المستقبل.
فهل سنفعل؟ أم سنبقى نرضى بكرامتنا تهان في كل يوم، وفي كل ساعة، في كل معاملة في دائرة حكومية، وفي كل سفر، وفي كل انقطاعة كهرباء، وفي كل غوص للأقدام في الوحل والطين، وفي كل مطرة تغرق شوارعنا، وتنساب مياهها إلى بيوتنا، وفي كل عملية انتخابية، وفي كل وعد كاذب، وفي كل اعتقال، وفي كل استغراق في طائفية، وفي كل سرقة للمال العام.
طالما بقينا سنة، وطالما بقينا شيعة، سنبقى (قشمر)، وأضحوكة، يلعب بنا وبمشاعرنا ومصائرنا السياسيون المتنفذون، سنبقى ندفع الثمن، بل ندفِّع الأجيال القادمة ثمنا باهضا، دون أن نستأذنهم، فهل سيغفرون لنا؟ لذا لا بد أن نرفض هذا الواقع الكارثي، ونثور عليه، سلميا، عراقيا، لا عنفيا، ولا طائفيا.
مقالات اخرى للكاتب