هل لأصحاب الكفاءات والمواهب والخبرات فرصة بعد الانتخابات لنيل استحقاقاتهم الإدارية والوظيفية والمهنية والعلمية والأدبية والفنية ؟. هذا هو السؤال المُلِّح المعاد المتكرر, الذي يدور في أذهان أصحاب الكفاءات النادرة وأصحاب الشهادات العليا كلما اقترب موعد الانتخابات, ففي ظل المحاصصة الفئوية والحزبية والتكتلية تختفي الاستحقاقات كلها وتضيع في مهب الريح, وفي ظل التعصب العشائري والانحياز القبلي والولاء الطائفي يرتفع شعار الأقربون أولى بالمعروف. ثم كيف تأتي الفرص العادلة لأصحاب الكفاءات في ظل غياب الركن الإداري الأهم من تركيبة المؤسسات الحكومية العراقية, التي تصدعت سقوفها بعد غيابه, وانهارت تماما, فاختفت القواعد الإدارية الصحيحة من مناهج مؤسساتنا وتطبيقاتها المزاجية الارتجالية المتأرجحة, ولم يعد لها أي وجود منذ تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا, ما أدى إلى تردي مستوى مؤسساتنا وتقهقرها وتخلفها, وبالتالي عجزها وفشلها, وفقدانها القدرة على الوفاء بالتزاماتها الرسمية والأخلاقية والوطنية. لقد اتفقت الدراسات التحليلية والتنظيمية في الدول المتقدمة على أهمية (التوصيف الوظيفي), الذي يعد من أهم ركائز المؤسسات الإدارية, وأقوى أركانها, فالوصف الوظيفي هو الركن المتين الوحيد, الذي ينبغي الاستناد عليه في تحديد القيمة النسبية للوظائف داخل المؤسسة, والاستدلال على المسارات الصحيحة في خارطة المواصفات الوظيفية القائمة على المعايير العادلة, وصولا إلى تشخيص مواصفات شاغل الوظيفة, وتحديد مستواه التعليمي, ومعايير تأهيله المهني والإداري, ومجالات خبرته ومدتها, ومهاراته المطلوبة, وسماته الشخصية, وصفاته الاجتماعية, ومن ثم معرفة حدود مسئولياته, وسلطاته الوظيفية, وواجباته الأساسية, ورسم ملامح البيئة الإدارية التي يتعين عليه العمل فيها, مع وضع تصور كامل لمؤهلات مدراء الشركات, ومؤهلات مدراء أقسامها وشعبها وتفرعاتها الأخرى. فالتوصيف الوظيفي أداة عادلة جدا تستعين بها الوزارات في تقييم أداء تشكيلاتها الوزارية, وهو أيضا وثيقة قانونية غير خاضعة للتلاعب, ولا تسمح بالانحياز إلى طائفة معينة أو فئة محددة, ولا تتضمن أية إشارة إلى العنصر أو اللون أو الدين أو السن أو الجنس, ولا ينبغي أن تجري الأمور على ما هي عليه الآن في غابات التقافز الإداري فوق درجات السلالم الوظيفية, حتى بات الباب مفتوحا على مصراعيه, فتسربت منه رياح المحاصصة الطائفية, وتيارات المحسوبية والمنسوبية, وحملت لنا سمومها وهمومها, فطغت الولاءات الحزبية الضيقة على واجهات مؤسساتنا, وفرضت علينا نماذج من المدراء لا تنطبق عليهم أدنى معايير الكفاءة, ولا تشملهم الاستحقاقات الوظيفية المتعارف عليها, وكانوا عالة على العملية الإنتاجية, وتسببوا في تسرب الفساد, وتفشي الرشوة, وضياع الحقوق, فاضطربت الأوضاع, وعمت الفوضى. لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وهكذا كُتب علينا الفشل في تحقيق خطوة واحدة نحو الأمام في مسيرة الخطوات المتعثرة والهفوات المتكررة, ولم ننجح في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب, إلا في حالات نادرة جدا ساقتها رياح الصدفة. فالاختيار والتعيين للمناصب العليا يجري عندنا خارج السياقات السليمة, التي تحدد صلاحية المرشح الأصلح, والتي يفترض أن ننتقى فيها أفضل المؤهلين لشغل الوظائف الشاغرة, فمعايير العقل والمنطق والعدل والإنصاف تحتم علينا الاستناد على قاعدة التوصيف النوعي الوظيفي, وبخاصة حين يتعلق الأمر باختيار قادة المناصب الإدارية الرفيعة, لان هذه القاعدة هي السبيل الأسلم لمعرفة مهارات الناس, والانتفاع بهم. فإذا توفرت في المرشح الأهلية العلمية والاستقامة والإتقان والخبرة, فهو الأنسب ولا مجال للتردد, بصرف النظر عن لونه وعرقه وطائفته وميوله الحزبية, أما إذا كان المرشح مؤهلا من وجهة نظر أمه وخالته وعشيرته وحزبه وواسطته, لكنه غير مؤهل علميا, فمثله لا يصلح لملء الشاغر, لأن المرء عدو ما يجهل, بصرف النظر عن توفر حسن النية, وقد تسبب أمثال هؤلاء في تردي الأداء, وفقدان تكافؤ الفرص بين الموظفين الآخرين, وتسببوا في اضمحلال التنافس الشريف بينهم, واتجاههم إلى العبث والتخريب واللامبالات, وتسببوا أيضا في هجرة العقول والأدمغة, وسمحوا بتزايد نفوذ الوصوليين والانتهازيين والمرائين, والتفافهم حول المرشح الدخيل على النظام الإداري, واستغلاله وتضليله. ختاما اسمحوا لي بطرح السؤال التالي: هل توجد في تنظيماتنا الإدارية المركزية أجهزة دائمية تساعدنا على الاختيار بموضوعية, وتحذرنا من الترشيحات الإدارية المبنية على العلاقات والولاءات والانتماءات ؟؟. هل هي دائرة المفتش العام ؟ أم هي هيئة النزاهة ؟؟, أم مجالس المحافظات ؟؟, أم هيئة المسائلة والعدالة ؟؟, ربما الجواب المتوقع هو النفي, وأرى أن الأمر منوط بوزارة التخطيط, التي يتعين عليها النهوض بمهام الإصلاح الإداري, وإصدار القوانين والتعليمات والتشريعات النافذة, ورصد الانتهاكات الوظيفية التي نخرت ومازالت تنخر في بنيان الهياكل التنظيمية لمؤسساتنا, ولا مناص من مراقبة توزيع المناصب بين الموظفين بشفافية ومنطقية وعدالة, عندئذ سيعرف كل موظف حجمه الحقيقي, وسيتصرف في حدود مسئولياته, وصلاحياته, وواجباته, وعلاقاته الوظيفية, وسنتوصل في يوم من الأيام إلى اعتماد المعايير القياسية العادلة, فلا تفقدوا الأمل.
مقالات اخرى للكاتب