من الأمور المسلم بها بأن الحاجة إلى القوانين والعدالة والحرية وبقية المتطلبات الإنسانية لا تبرز ضرورتها إلا في مجتمعات بلغت مرحلة لا بأس بها من التطور الاجتماعي والسياسي .
وتبين لنا الدراسات الآثارية والتاريخية ، ونتائج الحفريات العديدة في العراق بأن التكوينات السياسية ظهرت في حدود سنة ( 4000 ق.م ) في الأقسام الجنوبية من العراق ، وهذا لا يعني أنه لا توجد أقوام سكنت وادي الرافدين قبل هذا التاريخ ، وكان لها تنظيم قانوني ، لكن لعدم اكتشاف حقائق ومعلومات أكيدة عن تلك الحقبة لا يمكن أن نبحثها في الوقت الحاضر ، وبالتأكيد أن هذه التكوينات لا تستطيع أن تُسيّر أعمالها ومتطلباتها الاجتماعية معتمدة على الأعراف والتقاليد ما لم تكن هناك قوانين تُنظم علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ولأن الكتابة المسمارية لم تكن معروفة في ذلك الوقت فإننا لا نعرف شيئاً عن طبيعة تلك القوانين لكن بعد معرفة العراقيين القدماء الكتابة في حدود سنة 3200 ق.م بدؤوا تدوين أخبارهم ومعاملاتهم الاقتصادية والاجتماعية والقضائية ، واستطعنا من خلالها معرفة القوانين والأحكام التي كانت سائدة في ذلك الوقت التي تدلل على أن العراقيين القدماء أدركوا أهمية القانون والعدالة في وقت مبكر جداً ، وقاموا بالإصلاحات الاجتماعية مما وفر الأرضية الخصبة لنهوض أرقى الحضارات وأقدمها التي عرفتها الإنسانية .
وقد أطلق على العراق القديم عدة تسميات ، منها بلاد سومر : وهو يستخدم للدلالة على الجزء الجنوبي من السهل الرسوبي ، وبلاد أكد : وهو للدلالة على الجزء الشمالي من السهل الرسوبي ، أو بلاد سومر وأكد ، أو بلاد بابل التي سيطرت على أرجاء مناطق الجنوب العراقي كافة ، وبلاد أشور التي حكمت الجزء الشمالي من العراق ، إن التسميات الشائعة بين المؤلفين العرب ولاسيما العراقيين في الوقت الحاضر هي تسمية العراق القديم على هذه الحضارات ، وهي أدق التسميات جغرافياً وتاريخياً ، وأكثرها تأكيداً على أن الحضارات العراقية القديمة هي ليست حضارات ميتة كما يحلو للبعض تسميتها ، بل هي حضارة حية ومستمرة في نموها وازدهارها ، وهي حضارة أصيلة من أبرز سماتها التنظيم القضائي لمختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وإن أقدم إصلاح اجتماعي معروف عثر عليه في العراق القديم يرجع تاريخه إلى سنة ( 2355 ق.م ) من خلال لوح طيني اكتشف في دويلة ( لكش ) التي تعد من أهم الدويلات السومرية التي قامت وازدهرت في تلك الحقبة .
كما قامت فيه أقدم الشرائع وأرقاها التي حوت القواعد القانونية والتي تنظم القضاء وتحوي على الجرائم والعقوبات الخاصة بها .
ومن هذه الشرائع والقوانين : شريعة اورنمو ، ولبت عشتار ، وقانون ايشنونا وشريعة حمورابي .
وسنبحث في البنود الآتية موانع المسؤولية الجنائية الواردة في النصوص القانونية لهذه الشرائع والقوانين .
أولاً : شريعة اورنمو .
وهي من أقدم الشرائع التي عرفتها البشرية ، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الملك السومري ارنمو مؤسس سلالة أور الثالثة الذي حكم بين سنة ( 2113 - 2095 ق.م ) .
ذكرت المواد القانونية التي جاء ذكرها في هذه الشريعة مجموعة من الجرائم وحددت مسؤولية الفاعل عنها ، وحددت العقوبات اللازمة لكل جريمة من الجرائم .
واتجهت هذه القوانين إلى عقوبة الغرامة المالية بدل العقوبة الجسدية فوضعت لأغلب الجرائم عقوبات مالية تختلف من جريمة إلى أخرى بحسب جسامة الجريمة من وجهة نظر المشرع ، إلا أنها في بعض الجرائم ، مثل : ( جريمة إغواء امرأة متزوجة لرجل ليضاجعها ) أعطت الحق للزوج بقتل زوجته الزانية مع إطلاق سراح الرجل الذي أغوته الزوجة .
أما ما ورد من مواد قانونية تنص على موانع المسؤولية الجنائية :
ما جاء في المادة الخامسة من مواد هذه المجموعة القانونية التي نصت على حالة الإكراه فجاء فيها : (( إذا أزال رجل بكارة أمة رجل آخر بالإكراه ، عليه أن يدفع ( غرامة ) خمسة شيقلات (*) من الفضة )) .
فمن خلال النصوص القضائية السومرية والمواد القانونية للشرائع السومرية يبدو واضحاً أنهم لم ينظروا إلى العلاقات الجنسية التي تحدث بين الرجل والمرأة غير المتزوجة ، التي يتوفر فيها الرضاء المتبادل كونه مشكلة اجتماعية ، أو إنه يجب فيها العقاب ، لكن العقوبة تفرض في الوقت الذي يدخل الإكراه سبباً للعلاقة الجنسية ، لذلك نلاحظ في هذه المادة أن القانون فرض العقوبة المالية على الرجل نتيجة لإكراهه المرأة على الزنا ، أما المرأة فلم يحملها مسؤولية الفعل ، ثم لم يفرض عليها أية عقوبة ؛ لأنها كانت مكرهة .
ثانياً : قانون لبت عشتار .
وينسب هذا القانون إلى لبت عشتار وهو خامس ملوك سلالة آيسن ، وحكم في الحقبة ما بين سنة ( 1934 - 1924 ق.م ) ، وكتبت هذه القوانين باللغة السومرية .
ويضم هذا القانون مجموعة من المواد القانونية التي تنص على عدد من الجرائم مثل : جريمة السرقة ، والقذف ، والإيذاء ، والإتلاف ، وغيرها .
كما حدد العقوبات اللازمة لكل جريمة منها ، واتجه هذا القانون أيضاً وكما هو الحال في قانون اورنمو إلى فرض العقوبات المالية بدلاً من العقوبات الجسدية .
أما المواد القانونية الخاصة بموانع المسؤولية الجنائية فلم نعثر على ما يشير إليها في المواد القانونية التي أمكن قراءتها في هذا القانون .
ثالثاً : قانون آيشنونا .
يعد هذا القانون من أقدم القوانين المكتوبة باللغة الآكدية ، ويعود تاريخه إلى ما قبل حكم الملك حمورابي بحوالي نصف قرن ، وينسب هذا القانون إلى مملكة آشنونا إحدى الدويلات التي حكمت منطقة ديالى في بداية العهد البابلي القديم وعاصمتها ( آيشنونا ) ، ويضم هذا القانون حوالي مئة مادة قانونية ، ولكن الذي تم اكتشافه ستون مادة قانونية فقط .
وهذا القانون يضم أيضاً جرائم مختلفة ، مثل : جرائم القتل ، والجروح والإيذاء ، والسرقة ، والإتلاف ، وغيرها ، ويمتاز هذا القانون بوجود عقوبة الإعدام في جرائم القتل والسرقة وجرائم الاغتصاب ، فضلاً عن العقوبات الأخرى التي تتمثل بالغرامات المالية التي يعاقب بها الجاني في الجرائم الأخرى ، كما نصَّ هذا القانون على مسؤولية الإنسان التقصيرية ؛ ففرض عليه عقوبة مالية إذا أهمل واجبه ، كمن له ثور نطاح ولم يقطع قرنيه على الرغم من تبليغ السلطة له ، أو عنده كلب شرس ولم يحبسه وسبب أذى أو قتل إنساناً ، فإن صاحب الثور أو الكلب يعاقب مالياً ، أو كان لديه جدار آيل للسقوط وقد أخبرته السلطة بذلك لكنه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة لتقوية جداره ؛ فسقط على أحد الأشخاص وقتله فإنه يكون مسؤولاً عن جريمة القتل ، ويترك أمره للملك ليقرر مصيره .
أما موانع المسؤولية الجنائية فجاء ذكرها في المواد الآتية :
المادة ( 6 ) : (( إذا استولى رجل في محنه ( أي مضطراً ) على قارب لا يعود له فعليه أن يدفع عشرة شيقلات من الفضة ( غرامة ) )) .
في هذه المادة أخذ المشرع بنظر الاعتبار حالة الضرورة التي يكون فيها الرجل في مثل هذه الظروف ، وبما أن حالة الضرورة من موانع المسؤولية الجنائية لم يفرض المشرع عقوبة قاسية مثل عقوبة الإعدام أو فرض عقوبة مالية كبيرة بل جعل عقوبته عقوبة بسيطة تتناسب مع الظرف الذي أجبره على ذلك الفعل وبالتأكيد لم يعد فعله جريمة سرقة ، والدليل على ذلك ، أن العقوبة المفروضة عليه عقوبة بسيطة إذا ما قورنت بالمواد الأخرى من هذا القانون أو القوانين الأخرى التي تفرض عقوبة قاسية على جريمة السرقة .
أما المادة ( 27 ) فتنص على ما يلي : (( إذا أعطى رجل لابنة رجل مهراً ولكن رجلاً آخر خطفها ودخل بها ( افتضها ) من دون موافقة أبيها وأمها فهذه قضية ( قتل نفس ) ويجب أن يموت )) .
في هذه المادة نلاحظ اهتمام المشرع وتركيزه على تحريم العلاقات الجنسية التي يصاحبها الإكراه ، وفرض عقوبة شديدة على مرتكبه تتناسب مع خطورة الفعل المرتكب ، فجعل عقوبة الموت للرجل الذي يمارس العملية الجنسية بالإكراه ، وبالمقابل فإنه لم يفرض أية عقوبة على الفتاة بوصفها كانت مكرهة على فعل الزنا ، ثم فهي غير مسؤولة جنائياً عن هذا الفعل .
رابعاً : شريعة حمورابي .
هذه الشريعة تنسب إلى الملك البابلي حمورابي ، وهو سادس ملوك سلالة بابل الأولى ، حكم ما بين سنة ( 1792 - 1750 ق.م ) ، كتبت الشريعة بالخط المسماري ، وباللغة البابلية على مسلة كبيرة .
تحتوي المسلة على أكثر من ( 282 ) مادة ، وإن قسماً من هذه المواد لم يتم معرفتها للتخريب الحاصل في المسلة ، وهذه المسلة صنعت من حجر الدايوريت الأسود ، طولها ( 225 سم ) وقطرها ( 60 سم ) ، وهي اسطوانية الشكل ، وتعد هذه الشريعة بحق أكمل وأنظم قانون مدون مكتشف في العالم حتى الآن ويبدو أن مواد الشريعة قد جمعها الملك حمورابي من القوانين السائدة في ذلك العصر ، ومن الشرائع التي سبقته ، وهو جمع منقح لهذه المواد القانونية ، بحيث أضاف إليها ما اقتضته ظروف ومصلحة الدولة آنذاك ، وحذف منها ما لا يتلاءم مع عصره وظروفه .
وتمتاز هذه الشريعة بوجود تفاصيل أكثر حول الجرائم والعقوبات المقررة لها وهي عقوبات قاسية إذا ما قورنت مع الشرائع التي سبقتها ، فقد قرر عقوبة الإعدام لجرائم عديدة منها : عقوبة القتل والسرقة والاغتصاب والسحر والشهادة الكاذبة والإدعاء الكاذب في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام ، كما أقر مبدأ القصاص بالمثل في جرائم القتل والجروح ، كما أقر العقوبات المالية لبعض الجرائم ، ومبدأ التعويض في جرائم أخرى ، لكنه جاء بمبدأ غريب لا يتصف بالعدالة عندما حمَّل الغير مسؤولية فعل لم يرتكبه ، كما في حالة البنّاء الذي يبني داراً لرجل آخر فينهدم هذا الدار ويقتل ابن صاحب الدار ، فجعل العقوبة أن يقتل ابن البنّاء وليس البنّاء نفسه ، فهذه العقوبة وإن كانت تصيب الفاعل بضرر نفسي إلا أنها تلحق عقوبة قاسية بحق شخص بريء .
هذا ونصت شريعة حمورابي في عدة مواد على حالات من موانع المسؤولية الجنائية ، ومنها :
1 - حالة الإكراه :
جاء في المادة ( 103 ) ما يلي : (( إذا كان سائراً في ( طريق ) رحلته التجارية وسلبه عدو ( أي قاطع طريق ) ما كان يحمله ، فعلى البياع المتجول أن يقسم بالاله ( بخصوص ما حدث له ) وعندئذ يخلى سبيله )) .
كما جاء في المادة ( 130 ) من الشريعة المذكورة ما يلي : (( إذا باغت رجل زوجة رجل آخر لم تكن قد تعرفت بعد على رجل ، وهي لا تزال تعيش في بيت أبيها واضطجع في حجرها وقبض عليه ( أثناء ذلك ) فإن هذا الرجل يقتل ، ويخلى سبيل تلك المرأة )) .
وجاء في المادة ( 227 ) منه ما يلي : (( إذا أجبر ( أو خدع ) رجل حلاقاً وغيّر حلاقة عبد ( بحيث ) لا يمكن تمييزه ( بعد ذلك ) فعليهم أن يقتلوا ذلك الرجل ويعلقوه أمام بابه ، وعلى الحلاق أن يقسم بأنه لم يحلق عن علم ثم يخلى سبيله )) .
2 - حالة الضرورة :
أما حالة الضرورة كونها مانعاً من موانع المسؤولية الجنائية أيضاً ، فجاء ذكرها في المواد الآتية :
ففي المادة ( 134 ) من شريعة حمورابي جاء : (( إذا أسر رجل ولم يكن في بيته الطعام ( الكافي ) ودخلت زوجته بيت رجل ثان فإن هذه المرأة لا ذنب لها )) .
فهذه المادة ترفع المسؤولية الجنائية عن المرأة ؛ لأنها مضطرة لما فعلته لعدم وجود طعام في بيتها ، مما يعرضها ذلك للهلاك ، أما إذا كان لديها طعام كاف فلا يحق لها الخروج من بيتها وعليها المحافظة على عفتها ؛ لأنها إن خرجت من بيتها ولم تحافظ على عفتها فإن عقوبتها أن تلقى في الماء ، وهذا ما جاءت به المادة ( 133 - أ،ب ) من هذا القانون .
3 - حالة صغر السن :
لم تذكر هذه الشريعة إعفاء صغير السن من عقوبة الجريمة التي يقترفها ، بل جعلته يتحمل المسؤولية الجنائية عن الفعل الذي يقترفه ، كما حملته مسؤولية الجريمة التي يرتكبها والده .
فجاء في المادة ( 116 ) ما يلي : (( إذا مات الكفيل في بيت محتجزه من الضرب أو سوء المعاملة فعلى صاحب الكفيل أن يثبت ذلك على تاجره ، فإن كان ( الكفيل ) ابن رجل فيجب أن يقتلوا ابنه )) .
وجاء في المادة ( 192 ) ما يلي : (( إذا قال ابن تابع القصر ، أو ابن حريم القصر ( المتبني ) لأبيه الذي رباه أو أمه التي ربته : أنت لست والدي ، أو أنت لست والدتي ، عليهم أن يقطعوا لسانه )) .
كما جاء في المادة ( 193 ) ما يلي : (( إذا وجد ( اكتشف ) ابن تابع القصر أو ابن حريم القصر (المتبني) بيت أبيه ( الأصلي ) وكره الوالد الذي رباه ( تبناه ) والأم التي ربته ( تبنته ) وذهب إلى بيت أبيه ( الأصلي ) فعليهم أن يقلعوا عينه )) .
وجاء في المادة ( 195 ) ما يلي : (( إذا ضرب ابن أباه فعليهم أن يقطعوا يده )).
خامساً : المواد القانونية في العهد الآشوري الوسيط .
عُثِرَ على مجموعة كبيرة من الرقم المسمارية ضمت عدداً من الألواح التي دونت عليها مواد قانونية ، وقد بينت الدراسات أن هذه الألواح يعود تاريخها إلى الحقبة الواقعة بين سنة ( 1450 - 1250 ق.م ) تقريباً ، أي إلى حقبة العهد الآشوري الوسيط .
ذكرت حالة الإكراه في عدة مواد من مواد هذه المجموعة القانونية وهي المواد : ( 12 ، 16 ، 23 ) .
وسأورد ما جاء في المادة ( 12 ) من هذه المجموعة على سبيل المثال :
م 12 : (( إذا مرت زوجة رجل في شارع ( عمومي ) ومسكها رجل وقال لها : ( دعيني مضاجعتك ) ، فإذا رفضت ودافعت عن نفسها بغيرة وحماس غير أن الرجل أخذها بالقوة وضاجعها ، فإن شاهده يضاجع المرأة أو أن شاهداً أيد مشاهدته ( لهذا الرجل وهو ) يضاجع المرأة فعليهم أن يقتلوا هذا الرجل ، أما بالنسبة للمرأة فلا عقاب عليها )) .
مقالات اخرى للكاتب
تعليقات
#1
علي 11/06/2014 - 07:35
قانون الجنائي
اثر المسؤولية الجنائية على صغير السن والمجنون
أضف تعليق
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
اخبار العراق اليوم تصلكم بكل وضوح بواسطة العراق تايمز