أضحت التفجيرات في بلادنا العربية أمراً مألوفاً لا غرابة فيه، وحدثاً عادياً، لا يثير انتباه أحد، ولا يبعث الرعب في قلوب المواطنين ولا يخيفهم، فلا يضطرب منها الكبار، ولا يخاف منها الصغار، ولا تنبه منها الأمهات، ولا يحذر من أخطارها الآباء، فهم إما نشأوا معها، أو ولدوا خلالها، فعاشوا في ظل تداعياتها، وعانوا من نتائجها، فعرفوا كيف يتعايشون معها، ويتساكنون مع دمارها وخرابها.
فقد باتت التفجيرات مصاحبة لحياتنا اليومية، وجزءاً من مشاهدنا الاعتيادية، نسمع بها عبر نشرات الأخبار، وكأنها حالة من حالات الطقس وتغيرات المناخ، أو نسمع دويها بآذاننا، وتهتز من هولها نوافذ منازلنا، ويتساقط من شدتها أحياناً زجاج شرفات بيوتنا، فلا نضطرب لها، ولا نجفل منها، ولا نسأل إلا عن مكانها، أو عن عدد ضحاياها، أو نحاول أن نتعرف عمن تربطنا به علاقة نسب، أو قرابة دم، فنسأل عن الغائب منا، أو الساكن بالقرب منها أو جوارها، ثم نطوي الصفحة، ونتجاوز الحدث، وننتظر الدوي الجديد، والخبر الآخر، والانفجار التالي.
لم تعد التفجيرات حكراً على الاحتلال الإسرائيلي، وحصراً داخل فلسطين المحتلة، حيث اعتاد الفلسطينيون على قصف الصواريخ، وغارات الطيران الحربي، وقذائف الدبابات والعبوات الناسفة، وبات الأطفال الفلسطينيون يميزون نوعية الإنفجار وحجمه ومدى قربه أو بعده، وهل هو ناتجٌ عن صاروخٍ أو قذيفة دبابة، أو هو عبارة عن قنبلة أو عبوة ناسفة، وغير ذلك من التفاصيل التي يختص بها العسكريون والخبراء.
ولكن التفجيرات اليوم تجاوزت الساحة الطبيعية، وميدان الحرب الحقيقي، وغدت حدثاً مشتركاً في كل بلادنا العربية، وعلامةً بارزة نشترك فيها جميعاً، فلا تختص بها ساحة دون أخرى، ولا تعاني منها دولة وتنجو من أهوالها أخرى، فمن لم تشهدها اليوم فإن الأيام القادمة كفيلة بأن توقعها، وتلحق بها نصيبها من الضرر، وحصتها من الخسارة، فالذين يوزعون الإرهاب، ويقسمون الظلم والاعتداء، يحرصون على العدل والسوية، ويرفضون التمييز والتخصيص، فالعرب جميعاً سواء، وبلادهم واحدة، والنيل منهم واجب، وإلحق الضرر بهم فريضة، فيجب ألا تنعم بلادهم بالأمن، وألا يسودها السلام، وألا تنشغل بالتنمية والإعمار، ولا بالتطور والتقدم، ويجب أن يفقد أهلها الاستقرار والاطمئنان، وأن يشعروا بالخوف والرعب، وأن يفتقروا إلى السلامة والأمان، فلا يكون أمنهم إلا في الهروب، ولا تتحقق سلامتهم إلا بالفرار.
تكاد لا توجد دولة عربية واحدة تدعي الأمن، وتتفاخر بالسلام، وتنعم بالاستقرار، بل باتت العواصم العربية كلها تتسابق وتتبارى في عدد التفجيرات، وفي عظم ضحاياها وشدة آثارها، ففي أقصى غرب الوطن العربي، باتت التفجيرات تهز صحراء موريتانيا، وتهدد حياة أهلها، وسلامة مواطنيها، وهم حفظة كتاب الله، وحراس اللغة العربية، وفحول الشعر وصناديد البيان، في الوقت الذي تنشط فوق أراضيها وبين سكانها، قواتٌ أجنبية، وأجهزة أمن غربية، لا أظنها تتوخى الأمن، وتحرص على سلامة المواطنين، بقدر ما تعمل على إيجاد موطئ قدمٍ لها، والبحث عن مبرر وجودٍ لقواتها وأجهزتها الأمنية.
والمغرب والجزائر غير بعيدتين عن هذه المخططات، بل تقعان في قلب المهمات التآمرية، حيث تهز الدولتين من حينٍ لآخر، تفجيراتٌ دموية إرهابية، تقتل وتخرب وتدمر، وتضر وتسيئ وتشوه، لا يقوم بها أهلها، ولا ينفذها أبناؤها، وإنما ينفذها ويشرف عليها متآمرون على الأمة العربية، ومعادون لها، يرومون الإساءة إليها، وإلحاق الضرر بها، وتنفيذ مهمات وتعليمات الطامعين بها، والمتآمرين عليها.
أما مصر وتونس فلا يراد لثورتيهما النجاح، ولا لأنظمة الحكم الجديدة فيهما الثبات والاستقرار، فتهزهما في القلب والأطراف، تفجيراتٌ عنيفة، تزلزل الأرض تحتهما، وتقتل جنودهما، وتلحق الضرر باقتصادهما، وتعرقل مسيرة تقدمهما واستقرارهما، في الوقت الذي يتطلع شعباهما إلى الاحساس بالأمة، والاستمتاع بالحرية، وقطف ثمار الثورة والديمقراطية، بعد سنواتٍ طويلة من الكبت والقمع والممارسات الأمنية البوليسية، الذي انعتقت منه ليبيا، فأبت بعض قواه إلا أن تجره إلى الخوف والهلع، وأن تربطه بالذعر والقلق، وألا تسمح لأبنائه بالنهوض بوطنهم، وتحقيق الأمن لمواطنيهم.
أما سوريا والعراق ومن بعدهما اليمن ولبنان، فقد باتت الأولى والثانية مسرحاً لتفجيراتٍ يومية، وقصفٍ منهجيٍ منظم، مستمرٍ لا يتوقف، ومتواصلٍ لا ينقطع، يستهدف الأحياء والأموات، والحجر والشجر والبشر، يقتل الأمل، ويميت الانتماء، ويقضي على الحب والولاء، فلا مكان آمن، ولا مجمع مستقر، ولا حياة طبيعية، ولا مكان في المستقبل لغير الموت والهلاك، والتشرد والضياع، ولا نية فيهما للخروج إلى بر الأمان أو شاطئ السلام، فكلاهما ذخرٌ للأمة العربية، ومستودعٌ للقوة فيها، ومذخورٌ للمعركة مع أعدائها، فوجب تدميرهما، والقضاء على أهلهما، وتشتيت شعبهما، وإعادتهما إلى الوراء سنيناً، لئلا يفكروا في غير هموهم، ولئلا يعيشوا لغير حاجاتهم.
أما اليمن ولبنان فقد أصبحتا صدى، ومرآةً للآخرين، وساحةً للعابثين، فيهما ينفسان عن أحقادهم، ويعبرون عن شرورهم، ويخططون للنيل من أعدائهم أو خصومهم، يتبادلون فيهما التفجيرات، ويقسمون القذائف والغارات، ويفرقون الاختراقات الأمنية لتطال كل الساحات، وتخترق كل الطوائف والتجمعات، فلا تنجو منها طائفة ولا تتهم بتنفيذها سواها، ولا يستفيد منها أحد، بل يتضرر من آثارها الجميع، إذ سيغيب الأمن، وسيحل الخوف، وستعود كانتونات الطوائف، وحواجز الهوية والمذهب، وستكثر حوادث القتل والخطف والتغييب، والسلب والنهب والاعتداء والتخريب.
هل ستغدو حياتنا بعد اليوم على هذا الحال، نتفاهم بالقنابل، ونتحاور بالقذائف، ونتراشق بالرصاص، ونقنع بعضنا البعض بالدماء والمجازر، ونرغم أنفسنا بالقهر والإذلال، فلا نعترف بأخوةٍ تجمعنا، ولا بمصالح توحدنا، أو حضارةٍ ننتمي إليها، أو دينٍ سماوي نؤمنُ به، وهل نسلم لعدونا، يخطط لنا، ويتسلل خلالنا، وينفذ بأيدينا ما يريد، ويصل بأبنائنا إلى ما يتمنى، أم سنقف وننتبه، وسنتفق ونتوحد، وسنوقف لغة البارود، ونقلع عن قعقعة السلاح ودوي الانفجارات، ونستبدلها بالمفرقعات في الاحتفالات والمهرجانات، لنسعد وأطفالنا وصغارنا بالتفجيرات الصوتية، والألعاب النارية.
مقالات اخرى للكاتب