لن نعود الى تاريخ الاحداث الجارية في منطقتنا . ولكننا سنتطرق الى البؤر الساخنة الحالية في كل من سوريا والعراق . فقد تعاظمت التدخلات الخارجية الاقليمية والدولية ، كل حسب اهدافه ومطامعه السياسية والطائفية او الاقتصادية . . وقد تشابكت هذه التدخلات بشكل بات من الصعب التكهن بنتائجها ، الا اننا يمكن ان نتلمس آفاقها من خلال تحليل هذه التدخلات . . حيث نراها بالشكل الآتي :
المشهد السوري
-------------
التدخلات الايرانية _ ان ايران غير مستعدة للتخلي عن نظام بشار الاسد ، وقد تدخلت في الحرب الاهلية السورية بحجة حماية المقدسات . ثم جندت حزب الله اللبناني للقتال مع الجيش النظامي ، وعززت تواجدها عن طريق المرتزقة من افغانستان والعراق بحجة الدفاع عن الطائفة ، تحت قيادة الحرس الثوري الايراني ، وزودتهم بالاسلحة اللازمة ، وتقوم بدفع رواتب مجزية لهم للاستمرار بالقتال . وقد تسبب ذلك باستنزاف الموارد المالية على حساب مصلحة الشعب الايراني ، خصوصا في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها ، وانخفاض اسعار النفط . ولم تستفد ايران كثيرا من الاتفاق النووي مع امريكا ودول اوروبا . ولازالت تدخلاتها مستمرة لكون سوريا تمثل امتدادا ستراتيجيا لها للوصول الى البحر المتوسط عن طريق حزب الله اللبناني عبر سوريا والعراق .
التدخلات السعودية _ تدخلت المملكة منذ بداية العصيان المدني السوري ضد بشار الاسد بالسر عن طريق تزويد المعارضة الموالية لها بالاسلحة اللازمة ودفع نفقات هذه المعارضة التي اصبحت باهضة كلما طال امد الحرب . واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار حرب السعودية في اليمن ، فان كلفة هذه الحرب قد قضت على الموارد النفطية التي تعتمد اعتمادا كليا عليها ، ومع انخفاض اسعار النفط وعدم نجاحها في القضاء على حركة الحوثيين ، فان عملية استنزاف طويلة تنتظرها ، خصوصا وانها لا تستطيع التخلي عن دعم فصائل المعارضة السورية لكونها تمثل موقعا لها في المفاوضات المستقبلية لتحديد ملامح نظام الحكم لما بعد بشار الاسد ،
التدخل الروسي_ لقد قلنا منذ بداية التدخل الروسي في سوريا ان هذا التدخل سيفضي الى مفاوضات سياسية لحل الازمة السورية ، وفعلا حاولت روسيا بعد تدخلها بوقت قصير طرح المبادرات السياسية لانهاء الملف السوري بالتوازن مع الملف الاوكراني . صحيح ان لروسيا مصالح عسكرية وسياسية في سوريا وهي تطل على المياه الدافئة في البحر المتوسط . الا ان ذلك لم يكن العامل الوحيد لتدخلها في سوريا . حيث ان المشكلة الاوكرانية والمقاطعة الاقتصادية قد اثرت عليها كثيرا ، وقد حاولت فتح جبهة جديدة في سوريا لتخفيف الضغط عليها . الا ان الامريكان ومن ورائهم الاوروبيون غير مستعدين على ما يبدو لتقديم اية تنازلات في الموضوع الاوكراني ، لانه يمثل موضوعا حيويا لكبح جماح الدب الروسي ليس في اوروبا فقط بل وفي العالم . . ولازالت روسيا تحاول مقايضة السلام السوري بالعقوبات المفروضة عليها . الا انها لم تفلح بهذا المسعى لحد الان ، حيث تعتقد امريكا ان الروس سيغوصون بالمستنقع السوري اكثر فاكثر ، مما حدا بالروس الى تشديد الضربات على القوات المعارضة لبشار الاسد وخصوصا في حلب وإدلب . . ولكن الامريكان لا تعنيهم الخسائر البشرية للسوريين ازاء مطالب روسيا . وهم لن يقدموا اي تنازل تجاه الازمة الاوكرانية ، التي تبدو حيوية جدا لحلف شمال الاطلسي اكثر من الاوضاع الدامية في سوريا .التدخل التركي _ كانت تركيا الى وقت قريب تساعد مساعدة خفية لكثير من فصائل المعارضة المقاتلة في سوريا . الا انه بعد محاولة الانقلاب الاخيرة ادركت ان الاعتماد على الامريكان فقط قد حرمهامن فرص كثيرة. وان توريطها باسقاط الطائرة الروسية لم يكن مايبرره ، وان الطعم قد ابتلعته ، دون ان تجني من ذلك سوى خسائر ستراتيجية وتعاظم دور حزب الاتحاد الكوردستاني السوري ، الذي له علاقات وطيدة مع اكراد تركيا . فاتجهت الى روسيا مادة لها يد المصالحة . ثم تحاورت مع ايران ، واجرت تسوية سياسية مع اسرائيل لتطبيع العلاقات معها . كل ذلك من اجل السماح لها بحرية اكثر للتدخل المباشر في سوريا ، او على الاقل غض النظر عن هذا التدخل . وبحجة مكافحة داعش والارهابيين قامت تركيا بعمليات عسكرية مباشرة ضد الاكراد المعادين لها او الذين يسعون الى تشكيل كيان كوردي على الحدود السورية ، حيث ان ذلك يعتبر من المسائل الستراتيجية والحيوية للسياسة التركية منذ حكم اتاتورك الى يومنا هذا . لقد توغلت تركيا كثيرا بالاراضي السورية ، ولا زال التدخل التركي مستمرا دون مقاومة حقيقية من الروس او الايرانيين ، رغم معارضتهم الشكلية . لان الجميع قد سقط في هذا المستنقع الذي لا طائل منه سوى قتل مزيد من ابناء الشعب السوري بكافة طوائفه الدينية والاثنية .
وننتيجة لهذه التدخلات فاننا لن نشهد بعد انتهاء الحرب الاهلية سوريا كدولة موحدة كما كانت رغم التصريحات المطمئنة .
المشهد العراقي
-------------
وفي العراق نجد ان اكبر لاعبين في العلن هم الامريكان والايرانيين . ثم دخلت تركيا على الخط ، وهناك تدخلات سرية لكل من السعودية وقطر ، غلب عليها الطابع المالي والتحريضي .ولنبدأ بالامريكان _ حيث لم يجر اي تغيير كثير على الموقف الامريكي في العراق ، اللهم الا زيادة عديد القوات الامريكية تدريجيا بحجة مقاتلة داعش . وفي الحقيقة فان الرئيس اوباما يزيد من التواجد الامريكي في العراق مع الحرص على عدم الاصطدام مع ايران . بل بالعكس يحاول ان يحافظ على علاقات جيدة معها ، ليؤكد نجاح الاتفاق النووي الايراني ، وعدم اثارة مزيد من المشاكل تجاه هذا الملف ، الذي رمى بكل ثقله عليه طوال فترة حكمه . ومع ذلك فاننا نشهد تحضيرات كثيرة يتم الاعداد لها من قبل الامريكان في العراق ، وذلك تمهيدا للستراتيجية الامريكية الجديدة التي ستتزامن مع الرئيس القادم للبيت الابيض . ومن ذلك التحركات السياسية السرية مع العرب السنة من خارج العملية السياسية . مع تحركات سياسية اخرى سرية وعلنية مع اقليم كوردستان . ولم تتوضح لحد الان ملامح المرحلةالمقبلة ، وعما اذا كان العرب السنة سيحضون بالاقليم السني المنشود . ام ان هذا الاقليم سيكون مشتركا مع اقليم كوردستان ، كما يرغب كثير من قيادي العرب السنة ، وارتباطه بعلاقة كونفدرالية مع المركز . ويبدو ان هذا المشروع صعب التحقيق ، ولا يحضى بموافقة الكورد . الا ان هذا المقترح يقوض جهود استقلال كوردستان العراق . هذا الاستقلال الذي يثير مخاوف كل من تركيا وايران على حد سواء .
ويبدو ان امريكا ستهتم كثيرا باستقرار الاوضاع في العراق اكثر من اهمية ذلك لها في سوريا ، لانهم لن يفرطوا على مايبدو بتطبيق التجربة الديموقراطية في العراق ، وسيحاولون المساعدة لتقليص الفترة اللازمة لتحقيق ذلك ، وايجاد نوع من الاستقرار في هذا البلد .
التدخل الايراني في العراق _ تحاول ايران بتدخلاتها العلنية والسرية في العراق تقليص دور الجيش العراقي واحلال الحشد الشعبي محله في كثير من المواقع الساخنة . كما تحاول ازاحة رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي تعتبره ايران اقرب الى واشنطن منها ، وتسعى لتغييره بشخصية اخرى اكثر موالاة لها ، وتعتمد في ذلك على فصائل الحشد الشعبي الموالية لها ، وعلى النفوذ السياسي الكبير للمالكي وحليفه هادي العامري ، وسيشتد الصراع اكثر داخل حزب الدعوة الحاكم بين جناحي المالكي والعبادي . . . وفي هذا الصدد لابد من الاشارة الى ان ايران تعتقد بانها ستبقى في العراق وسوريا فترة اطول بعد انتهاء الحرب الاهلية السورية ، والقضاء على داعش في العراق ، الا ان ذلك يمثل ضربا من الخيال . . لان الستراتيجية الغربية والامريكية بالذات لا تسمح باي بعد ستراتيجي لسوريا . وقد سبق وان افشلت كل مشاريع الوحدة مع دول اخرى ، وخصوصا العراق . وهي تحاول بشتى الوسائل قطع الامتداد الستراتيجي العراقي السوري . فما بالك اذا دخلت ايران ليكون لها هذا البعد العظيم في المنطقة من خلال سيطرتها على العراق وسوريا ولبنان ممثلا بحزب الله . وعلى هذا الاساس فاننا سنرى في المرحلة القادمة انحسارا للنفوذ الايراني في سوريا والعراق لصالح الدول العظمى ، واقصد امريكا وروسيا، لضمان مصالحهما الستراتيجية في المنطقة ، المفضلة دوما على مصالح الدول الاقليمية .التدخل التركي _ في محاولة لها للقضاء على حزب العمال الكوردستاني عبرت تركيا الحدود العراقية بحجة محاربة داعش ، وهي تصرح دائما بان هذا الحزب منظمة ارهابية وتعامله معاملة داعش . وتحاول ايضا المشاركة في معركة الموصل المرتقبة . الا ان الوضع العراقي وتوازنات القوى فيه سوف لن تسمح لها بهذه المشاركة . وسيقتصر الدور التركي في المرحلة القادمة على مساندة اقليم كوردستان والبيشمركة . وسيكون لها دورا اساسيا في المستقبل من اجل تقرير مصير الاقليم السني في العراق . كما سيكون لها الدور الفاعل لحماية التركمان في كركوك ، ومحاولة ايجاد صيغة توافقية مع الكورد لحسم موضوع كركوك .
التدخل السعودي القطري _ ان دور هاتين الدولتين في العراق سيتقلص كثيرا . حيث ان امريكا والغرب يتجهون باتجاهات غير مؤيدة لهما . خصوصا بعد فشل مايسمى بالاسلام المعتدل ليكون بديلا عن الحركات الراديكالية في المنطقة .وعلى العموم سنشهد في المرحلة القادمة نوعا من الاستقرار النسبي في العراق ، مع ازدياد النفوذ العسكري والسياسي لامريكا على حساب النفوذ الايراني كما اسلفنا . الا ان محاولة ايجاد صيغة ديموقراطية مقبولة من قبل الجميع ستستغرق وقتا ليس بالقصير ، فالعراق حديث العهد بالتجربة الديموقراطية الجديدة .
مقالات اخرى للكاتب