في تصريح مفاجئ طالب رئيس الورزاء العراقي حيدر العبادي مؤخرا المسؤولين العراقيين بنصب ميزانيات كهرباء أي عدادات لقياس استهلاك الطاقة في بيوتهم وقصورهم. ومن المرجح أن هذه الدعوة ذهبت كالعادة أدراج الرياح، ولكنها كشفت عن أن الطبقة السياسية تتحمل مسؤولية مزدوجة عن أزمة الكهرباء: أولا من خلال سوء الإدارة والفساد في هذه المجال الحيوي وثانيا من خلال تبذيرهم شخصيا وعوائلهم وحاشيتهم في استهلاك التيار الكهربائي. فمن يحصل على شيء مجانا، لا يملك الحافز لاستخدامه بعقلانية ويميل للإسراف. وكلما يغلى ثمن السلعة أو الخدمة، يزداد حرص المستهلك على ترشيد استهلاكها. لكن هذه البديهية الاقتصادية لا تنطبق على المسؤولين وحدهم، وإنما تسري أيضا على العراقيين عموما. وهي تعبر عن مشكلة حقيقية تواجه الاقتصاد العراقي وتلعب دورا هاما في ظاهرة تبديد المال العام والموارد الاقتصادية وفي تفشي الفساد وفي إشاعة سلوك يتعارض مع المنطق الاقتصادي العقلاني. فأي اقتصاد في العالم لا يستطيع أن يعمل بكفاءة دون الالتزام بآلية السعر ودون اعتماد أسعار تعكس التكاليف الحقيقية للسلعة. وإذا ما تم الابتعاد عن هذا المبدأ لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، فيجب أن يجري ذلك في نطاق محدود وبعد دراسة متأنية وموازنة دقيقة بين الآثار الإيجابية والسلبية المحتملة.
حتى لا يصبح دعم الأسعار دعوة للتبذير!
بعد الإطاحة بالنظام الدكتاتوري في ربيع عام 2003 كانت أسعار البنزين في العراق تُعد الأدنى في العالم وتقل من 1 سنت أمريكي للتر. وشكل هذا الدعم حينها العامل الرئيسي لتفاقم أزمة الوقود ولازدهار عمليات تهريبه إلى دول مجاروة. ولم يتم القضاء على هذه الظاهرة إلا بعد القرارات الهامة بالرفع التدريجي لأسعار الوقود لكي تصبح مقاربة لمستواها في الدول المجاورة والأسواق العالمية. وفي مطلع عام 2016 وبعكس الحالة العامة في العراق أصبح سائقو السيارات فجأة الفئة الوحيدة تقريبا التي استفادت من انهيار أسعار النفط الخام، عندما قررت الحكومة إجراء تخفيض على أسعار البنزين المحسن بعدما انتفت الحاجة لدعم الوقود المستورد من الخارج. وتدفع النتائج الإيجابية لسياسة إصلاح أسعار الوقود للتفكير بتعميمها على قطاعات هامة أخرى لا تزال تعاني من مشكلة تشوه آلية السعر. وينطبق ذلك على قطاع الكهرباء بشكل خاص. هنا تبدو الصورة ضبابية (وربما مظلمة) نتيجة تمتع الكهرباء بدعم مزودج. فمن جهة تحصل محطات توليد الطاقة على النفط والغاز بأسعار مخفضة. صحيح أن تراجع الأسعار العالمية لهاتين المادتين ساهم في تخفيف الأعباء المالية لهذا الدعم، ولكن أصل المشكلة لا يزال قائما. ومن جهة أخرى تبيع وزارة الكهرباء التيار الكهربائي بتسعيرة تقل عن كلفتها الحقيقية وهو ما يجبر الدولة على التدخل لتغطية الفارق. ونتيجة لذلك تتحمل الدولة عبئا ماليا كبيرا يصعب تحمله على المدى الطويل. ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي يُقدّر دعم تعرفة الكهرباء في عام 2015 بنحو 10 تلريونات دينار عراقي أي ما يعادل 8,5 مليار دولار. وهو مبلغ هائل بكل المقاييس. وفي ظل الأزمة المالية الخانقة فإن هذا البند الكبير يأتي على حساب بنود أخرى أهم للإنفاق العام ويساهم في تفاقم مشكلة العجز. غير أن الأعباء المالية هي ليست أخطر الآثار السلبية لدعم الكهرباء. فهذا الاختلال يقف أيضا وراء الفشل في حل أزمة الكهرباء رغم عشرات المليارات التي أنفقت لهذا الغرض. صحيح أن لنقص الكهرباء أسبابا متنوعة، ولكل الخلل في التعرفة لا يشجع المستهلكين على ترشيد الطاقة وإنما يعتبر دعوة صريحة للتبذير دون حساب. ومن الواضح أن ملايين العراقيين يلبون هذه الدعوة في بيوتهم ومواقع عملهم وفي أماكن لهوهم حيث يتم تشغيل الأجهزة الكهربائية بطريقة عبثية حالما تعمل الشبكة الوطنية. بل ويمكن القول بإن دون إصلاح تعرفة الكهرباء سيبقى هدف تجهيز الكهرباء لمدة 24 ساعة مجرد حلم غير قابل للتحقيق مهما بذلت الحكومة من جهود. وقد حاولت الحكومة في عام 2015 تعديل تسعيرة الكهرباء ولكنها أضطرت للتراجع تحت ضغوط شعبية وسياسية ودينية. ومن الطبيعي أن يراعي أي إصلاح في الإتجاه فئة المستهلكين من ذوي الدخل المحدود وعلى أن يكون الهدف هو أن يقتصر الدعم على مستحقيه فقط ولا يبقى مصدرا لتبديد المال العام وللفساد. وبطبيعة الحال فإن تصحيح التسعيرة لن ينفع كثيرا إذا لم تضمن وزارة الكهرباء قيام المستهلكين، وبغض النظر إن كانوا مسؤولين أو مواطنين عاديين، بدفع فواتير استهلاك الطاقة أولا بأول ، وكذلك إتخاذ إجراءات حازمة بحق المتجاوزين على الشبكة.
وفي محاولة لتخفيف الغضب الشعبي نتيجة انقطاع التيار الكهربائي قررت حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تزويد أصحاب المولدات الأهلية بالوقود بأسعار مخفضة بأمل أن يلتزموا بتسعيرة معقولة للمواطنين. غير أن مثل هذا القرار غير المدروس أصبح مصدرا للفساد وللإثراء غير المشروع. فلا يحتاج بعض أصحاب المولدات إلى التفكير طويلا لكي يكتشفوا أن بيع الوقود بأسعار السوق سيحقق لهم الأرباح دون عناء يذكر. وهذا مثال آخر على عبثية محاولة حل مشاكل اقتصادية بإجراءات إدارية غير مدروسة.
وتتجسد مظاهر الإسراف والتبديد بأوضح صورها في البطاقة التموينية. فبعد مضي أكثر من 13 عاما على الإطاحة بصدام حسين لا تزال الدولة والمجتمع والنخب متسمكة بهذا النظام البالي الموروث من العهد السابق رغم أن مبررات وجوده قد انتفت تماما. وتخصص الدولة سنويا أكثر من ملياري دولار لشراء سلع البطاقة التموينية. وإذا أضفنا إليها تكاليف شبكة التوزيع المؤلفة من جيش الموظفين والوكلاء يتضاعف هذا الرقم بالتأكيد. ولا تكمن المشكلة الأساسية في العبء المالي وإنما في دورها المحدود في مكافحة الفقر وهي الحجة الرئيسية لأنصار البطاقة التموينية. فلو تم دفع المليارات المخصصة للبطاقة على شكل مبالغ مالية للمستحقين فإن فائدتها ستكون أفضل بكثير وستصل مباشرة إلى المحتاجين إليها فعلا، بدلا من أن يضيع الجزء الأكبر في دهاليز الفساد ويذهب لصالح السوق السوداء و جيوب التجار. وقد حاولت حكومة المالكي إصلاح نظام البطاقة التموينية ولكن ردود الفعل الواسعة الرافضة أجبرتها على العدول عن ذلك. وعلاوة على إمكانية توظيف هذه الأموال في مكافحة الفقر فإن تعديل البطاقة التموينية وتحويلها إلى بدل نقدي سيوفر جرعة إضافية لنمو الاقتصاد الوطني وطلبا إضافيا يمكن أن تستفيد منه المنتجات المحلية. ومن المعروف أن الجزء الأكبر من مخصصات البطاقة التموينية يذهب لشراء سلع مستوردة. وهذه الحقيقة تفرض على الحكومة التفكير جديا ليس فقط بمراجعة نظام البطاقة التموينية وإنما أيضا بتغيير وجهة الدعم عموما لكي يصبح حافزا لنمو الانتاج المحلي.
دعم المنتج بدلا من المستهلك
على الرغم من كل التحفظات على سياسة دعم الأسعار إلا أن هناك قطاعا يستحق مثل هذا الدعم لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية، ألا وهو القطاع الزراعي. ويمكن الاستفادة هنا من تجارب أوروبا الغربية حيث بدأت هذه الدول بعد الحرب العالمية الثانية بالتدخل في السوق عبر شراء الحبوب واللحوم والزبدة وغيرها الأمر الذي شكل طلبا إضافيا على المنتجات الزراعية وأدى إلى رفع أسعارها وساهم بالتالي في تحفيز نمو القطاع الزراعي. ولم تنجح هذه السياسة في تحقيق نمو سريع في المنتجات الزراعية والحيوانية وتوفيرها بأسعار معقولة للمستهلك فحسب، وبل وبدأت أوروبا بعدها "تعاني" من فائض يقدر بمئات الآلاف من الأطنان من الحبوب والحليب والزبدة واللحوم. وينتهج العراق سياسة مشابهة حيث تُحدد الدولة أسعارا مجزية لشراء القمح والرز والتمور من الفلاحين بهدف تشجيعهم على زراعتها. ومع أنها تكلف الدولة أكثر من 1,5 مليار دولار، إلا أنها سياسة صحيحة من حيث المبدأ على خلفية مساهمتها في توفير الأمن الغذائي وتنمية الريف العراقي. بيد أنها تتطلب أيضا مراقبة صارمة ومراجعة مستمرة حتى لا تؤدي إلى نتائج معاكسة. فمن الملاحظ مثلا أن سعر الشراء المحلي لهذه المنتجات يفوق بكثير سعر الاستيراد، بل ويقارب ضعفه بالنسبة للقمح. ويمثل هذه الفارق، شئنا أم أبينا، حافزا لبعض الفلاحين (وربما أيضا لفلاحين فضائيين) لشراء أو تهريب القمح من الخارج وبيعه إلى الدولة بالسعر المحلي المرتفع. وهكذا يمكن لهذا النظام أن يتحول إلى دعم للقمح الإيراني أو التركي. وإضافة إلى تبديد الموارد المالية فإن ذلك يعطي صورة مشوهة وأرقاما مغلوطة عن أداء القطاع الزراعي العراقي ودرجة الاكتفاء الذاتي. وقد سبق ملاحظة مثل هذه الظاهرة في الدول الاشتراكية سابقا حيث كانت الدولة تشتري من المنتج منتجات معينة بأسعار مجزية وتبيعها للمستهلك بأسعار أقل. وكانت هذه العلاقة المشوهة لا تدفع الفلاحين لعدم الاحتفاظ بجزء من انتاجهم لتغطية احتياجياتهم الذاتية من الفواكه والخضار فحسب، بل وكان بعضهم يشترى هذه المنتجات من تجارة التجزئة ليعيد بيعها مرة أخرى إلى الدولة بسعر المنتج. ويمكن لتطبيق التعرفة الجمركية في العراق أن يساعد في الحد من هذه التصرفات الضارة وفي تحسين القدرة التنافسية للمنتجات المحلية.
من جانب آخر تقوم الدولة أيضا ببيع بعض مستزمات الانتاج مثل الأسماد بأسعار مدعومة. وهي سياسة تنطوي على خطر تحول بعض الفلاحين إلى "تجار للأسمدة" في السوق السوداء. ولكن ذلك لا يقلل من ضرورة قيام الدولة بدورها في مكافحة الآفات الزراعية والأبحاث الزراعية وتوفير البذور والشتلات المحسنة .
إن إصلاح نظام دعم الأسعار مسألة لا تقبل التأجيل ليس فقط لأنه يتعارض مع مبادئ اقتصاد السوق ويساهم في تعميق الأزمة المالية، وإنما بالدرجة الأولى لأنه يوفر أرضية خصبة للكثير من التصرفات الضارة بعملية التنمية ولتفشي الفساد ولإعادة توزيع الدخل بطريقة غير عادلة. كما يعتبر النظام المتبع حاليا مثالا واضحا على مساوئ الدولة الريعية. ولكن تصحيح هذا الاختلال يُعد أيضا مسألة حساسة لأنه يمس مصالح الكثير من المواطنين، وخاصة من ذوي الدخل المحدود، ويتطلب بالتالي الكثير من التأني والتوعية. وسيكون من الصعب جدا تحقيق ذلك دون توفر إرادة سياسية وتعاون القوى المشاركة في العملية السياسية والابتعاد عن نهج الشعبوية والمزايدات. فلا يجوز تبرير الفساد أو تبديد المال العام بذريعة الدفاع عن مصالح "الكادحين" أوالفئات الفقيرة. فالنجاح في مكافحة الفقر يشترط إجراءات هادفة ومدروسة وشفافة حتى لا تتحول الى شعار يختبأ وراءه الفاسدون.
مقالات اخرى للكاتب