منذ أن نزح الأندلسيون المسلمون عن ديارهم بعد سقوط غرناطة، بقيت مفاتيح بيوتهم ترافقهم في حلهم وترحالهم على أمل أن تعود إلى أقفالها في يوم ما، لكن المدى بعد وانقطعت السبل.
حملت تلك المفاتيح حكايات أصحابها، تاريخهم الطويل المليء بالأمجاد والخيبات في تلك الربوع الغريبة التي جاءوا إليها فاتحين ومكثوا بها نحو 770 عاما.
وحين انطفأ نجم سعدهم وتمكنت الفرقة منهم انهزموا وعادوا من حيث أتوا تاركين صروحهم العظيمة وقصورهم الرحبة وبيوتهم البيضاء المظللة بشجيرات الياسمين والريحان والورد الدمشقي.
ظل الأندلسيون المسلمون دهرا قابضين على مفاتيحهم قبض الجمر، وظنوا أن الفراق لن يطول، لكن القدر حكم، وبقيت قصائد ابن زيدون العذبة بأشواقها الخالدة ولوعتها المشبوبة وحنينها الأبدي إلى "ولادة" تائهة بلا وطن.
ولم يفر الجميع بعد سقوط غرناطة بل بقي هناك أعداد كبيرة منهم حتى بداية القرن السابع عشر، إلى ان طردوا وهُجروا عنوة إلى شمال إفريقيا.
ظلت هجرة المسلمين المعاكسة، عربا وأمازيغ، من الأندلس حسرة تتوارثها الأجيال وخيمة عزاء في الذاكرة، إلا أن التاريخ في هذه الواقعة قدّر الغزاة العرب الفاتحين للأندلس حق قدرهم وأنصفهم بما تركوا من معمار فريد وعلوم ومصنفات وحياة حافلة وضاءة.
طويت صفحة الأندلس، لكن باب الشتات لم يغلق، لقد فُتح على مصراعيه في فلسطين، وحمل الآلاف من جديد مفاتيح بيوتهم هربا هذه المرة من غزاة غرباء انتزعوا منهم بلادهم بوعد إلهي مزيف.
خرج هؤلاء إلى المنافي حيث نصبوا خيامهم ووضعوا مفاتيحهم تحت وسائدهم وظنوا أن العودة لا محالة آتية، وأن المفاتيح هذه المرة ستعود إلى أبوابها في أرض الآباء والأجداد.
توالت الأيام الكئيبة واشتدت الحسرة وارتفعت في مكان الخيام بيوت، ولم يعد هؤلاء يتذكرون حسرة الأندلس، استبدلوا حنينهم العتيق بحنين جديد بقي ظمآنا هو الآخر واستعرت لوعته. وتوارثت أجيال المفاتيح وتوارث الغرباء بيوتها.
وكنا نظن أن ضياع فلسطين هو أقسى وأمرّ ما يمكن أن يصيبنا، وأنها الكارثة الكبرى التي لا أبعد منها. وأنها مع ذلك قريبة، على مرمى البصر. وبقينا نحلم بيوم نحزم فيه أمتعتنا ونُخرج مفاتيحنا الصدئة، ونقرأ عناويننا القديمة ونعود إلى أرض الأجداد بفلسطين، لكن اليوم الموعود لم يأت، مرت 68 سنة والدروب إلى هناك تزداد في كل يوم بعدا عما كانت عليه بالأمس.
وفيما تتآكل مفاتيح أحفاد وأحفاد أحفاد الفلسطينيين من الصدأ ويتآكل انتظارنا معهم ليوم العودة، داهمنا الخطب من جديد وتوالت المآسي، وها هي مئات الآلاف من المفاتيح تهاجر مع أصحابها من العراق ومن سوريا ومن ليبيا ومن اليمن في آخر سلسلة من النكبات.
شق الكثير من هؤلاء المنكوبين البحر إلى الضفة الأخرى هربا من الجحيم، ولجأ كثيرون آخرون إلى الخيام، فهل ستهترئ هذه المرة أيضا الخيام من طول الانتظار وترتفع مكانها جدران من الحجارة والإسمنت مؤذنة بشتات أبدي؟
لم تعد المفاتيح إلى أقفالها في فلسطين، وهُجرت مفاتيح أخرى من أوطانها، لأننا أضعنا الزمن في دوامة مفرغة، ولم نعثر على مفاتيح الحياة التي كنا سدنتها في الأندلس لحقب طويلة، قبل أن نلقي رحالنا في الوحل ونصم آذاننا عن الوجود، ونسلم أرواحنا للخمول والكسل وللصراخ والعويل، مكتفين في مواجهة مآسينا بالشكوى من الأعداء القريبين والبعيدين، محملين إياهم أوزارنا وخيباتنا وتطاحننا وقلة حيلتنا وعجزنا المزمن.
لن تعود المفاتيح إلى أقفالها لأننا نبكي الدهر كله حين نفقد بيوتنا ونكتفي بكيل اللعنات، ولا نجد وقتا لنتماسك وننظر أمامنا بعيون صافية وبعقل بارد لنضرب أخماسنا في أسداسنا ونبحث عن مخرج يقودنا إلى الأعلى لا إلى الهاوية، كما تعودنا أن نفعل في كل مرة.
مقالات اخرى للكاتب