يا إخوتي الكرام، قد تتصف البداهة بالإبهام ويغدو المُبهم مُسَلَّمٌ بهِ و المُسَلَّمٌ به يبدو كعلامة إستفهام وتتبادل الحقائق والأوهام ثيابها في حفلة تنكرية طويلة تمتد فصولها على مدى الأيام والشهور والأعوام ويصاب المحتفلون بعمى الألوان والقلوب والأذهان ويصبح العالم والجاهل صنوان والشيطان ناسكاَ والناسك شيطان وحولهم مختلف الأقوام من الأَنام وعوامل الأنعام فيؤتمن الذئب على الخراف ويتهم الحمل الوديع بالإنحراف ويلعب الجلاد دور ضحيةٍ في مشهد هزيل وتلعب الضحية دور جلادٍ وهي لا تعي مبادئ التمثيل، ومايدور في بلادنا خير دليل لكل ذي بصيرة أو ذي فكر عليل..
"شعب الله المحتار" في متاهات الدجل والجدل الذي يحتل مساحات واسعة من فكر عقيم تنعدم فيه المسافات والفواصل مابين دنيا الدين والاهوت وبين دين الدنيا والناسوت بعد أن شوه ملامحها الطاغوت وعبث بها تجار السياسة والموت والكهنوت.
"شعب الله المحتار" عبارة لطالما تطرق أبواب ذاكرتي وأنا أتجول في شوارع بغداد وأزقتها الكئيبة المثقلة بالأتربه والأحزان وآثار فعل الزمان وجرائم الإنسان. تساؤلات حائرة في وجوه المتعبين والبائسين من الناس عن الخلاص. خلاص تتجسد فيه كل ملامح الحياة، يحلمون به وخلاص تتجسد فيه كل صنوف الموت، يعيشون تفاصيله. خلاص الموت والإرهاب والقتل العشوائي الذي يمزقهم إلى أشلاء بلا رحمة تقذفهم في السموات وتنثرهم على الطرقات وعلى أسرة المستودعات ودور التعجيل في الإعاقة والوفاة قرابين لنزوات الشياطين والجناة، موت وأهمال ونقص في الماء والهواء والكهرباء وشح واضح في الضمير والإيمان والحياء وموت وفساد حد النتانه في النفوس والأبدان وفي جميع مرافق دولة السلطان.
"شعب الله المحتار" كلمة سمعتها من والدي في الزمن البائد والعائد حالياً بأقنعة مختلفة الأشكال والألوان. حينها كنا في أحدى معتقلات الموت والتهجير، التي مارسها صدام لأبادة عوائل الكورد الفيليين. وفي أحدى الأيام السوداء وعند ساعات الليل الأولى داهمتنا خفافيش الليل وقد تطاير الشر والشرر من عيونهم وهم يوجهون أسلحة تقذف بالسجيل إلى صدور النساء والأطفال والشيوخ والشباب الأبرياء فعم ردهات المعتقل صراخ وبكاء وعويل بعد أن أمر أحدهم بعزل الشباب عن الآباء والأمهات ليقتادوهم لاحقاً إلى معتقلات ومنافي ومقابر جماعية مجهولة.ومن بين ضجيج الجناة الذين تعالت أصواتهم بالتهديد والوعيد والسباب والشتائم وشكوى المستصرخين من العوائل الفيلية إنبرى صوت رجل طاعن في العمر والأحزان ليقول بنبرات بائسة يائسة "والله ما نتعرض له اليوم لم يتعرض له اليهود أبداً". ربما نبرات الرجل الحزينة والمتوسلة أستفزت والدي الذي كان يتسم بالعنفوان والكبرياء والتحدي رغم عمق المحنة وحجم المأساة وهو يفقد أولاده وقرة عينيه ليبدأ رحلة مجهولة مع بناته الصغار السبعة وهو كفيف البصر وقد أخذ العمر منه مأخذاً بليغاً بعد طول معاناة وقهر وظلم وإستبداد في ظل نظام البعث، بعث روح الحقد والتعصب والهمجية والرذيلة في المجتمع. صاح والدي بالرجل بصوت حاد متسائلاً "ما الذي تقوله يا رجل؟" ثم إستمر قائلاً ..." اليهود شعب الله المختار ونحن العراقيون شعب الله المحتار مع هؤلاء السفلة والمجرمين" فَهَمَّ الحرس المسلحون بسحبه وضربه بينما كنا أنا وأخي الصغير مكبلين بالأصفاد وهم يدفعون بنا مع بقية الشباب الى حافلات عسكرية عديدة لغرض ترحيلنا إلى المعتقلات وقد غطى عويل أمي والنساء كل مساحات المشهد المأساوي بكل مفرداته. يوم لايمكنني أنساه أبداً وكلمة" نحن شعب الله المحتار" ظلت خالدة في ذاكرتي طول العمر وها هي تقفز في كل حين إلى الحاضرنا المأساوي والمثخن بالجراح والمكتض بالسفلة والمجرمين وبشعب محتار مازال يتسائل وتزداد حيرته يوما بعد يوم وسط متاهات لها أول وليس لها آخر...فهل سيحسن الإختيار؟
يا أخوتي الكرام لا تيأسوا فالحِيرَةُ سجيَّة لربما حميدة فهي رفض للإستسلام ولربما دوامة أو دورة زمان تقودنا يوماً لدولة تنعم بالعدل والسلام..