انها مدينة الكرم ودماثة الخلق طرزت معالمها بالبساطة ونسيم البردي والقصب وتحمل في طياتها كل انواع التراث الممزوج برائحة القهوة والدخان المنبعث من ساحات بيوتاتها بعدما يتجلى النهار مستقبلا نقاوة السماء في الليل معلقة بها سعادة النجوم واشعاع القمر ليسدل خيوطه على نهر الفرات وهو يتموج , فيها مضايف عامرة لم تتاثر بكل ماشجن عليها من قساوة الزمن يتسابق رجالها لكرم الغرباء بحفاوة , اعطت الكثير من شبابها مزقت افلاذ اكبادها جففت منابعها افرغت منازلها من رغد العيش اصيبت بحمى اهملت وعوقبت ووضعت في قضبان من فولاذ , لكنها بقت زاهرة بعنفوانها أبية بشموخها عتية برجالها الافذاذ فيها عطر المستقبل وحضارة التاريخ وعراقة الماضي ,مدينة الجبايش مرآة نقية وقد كتب العديد من المشاهير عليها , يقول الدكتور علي الوردي رحمه الله (بان اهل الهور هؤلاء هم اكثر سكان العراق تأصلا وامتدادا لسكان العراق خلال الحقب التاريخية السابقة للفتح الاسلامي ) هذا يؤكد بان اهل الجنوب هم اكثر سكان العراق اصالة لاكما قيل في ايام الانتفاضة الشعبانية حينما وصفوهم باوصاف ما انزل الله بها من سلطان, ونعرج على ماقاله الأستاذ شاكر مصطفى سليم في كتابه الجبايش الجزء الأول ( وهؤلاء العلماء هم هنري فيلد وسيتن لويد وثيسيغر فهؤلاء قد لاحظوا الشبه الكبير بين سكان الأهوار والأقوام القدماء من حيث مقاييس الرأس والبنيه الجسمانيه وحتى الأدوات الزراعيه وألات الصيد كالفاله وغيرها , وان حياتهم وظروفهم تتشابه الى حد كبير حياة السومريين القدماء , هذا بالأضافة الى مضائف شيوخهم المدوره والمبنيه من القصب والطين فهي تتشابه الى حد كبير من ما يمثل الهياكل الأصليه للمعابد السومريه في الألف الرابع قبل الميلاد) ,اهوار الجبايش هي مجموعة من اهوار العراق شرق الناصرية تعتبر امتدادا لهور ابو زرك وهور الحمار ترفد هذه الاهوار بمياه نهري دجلة والفرات وتوجد فيها انواع عديدة من الطيور ودجاج الماء وتوجد فيها الاسماك , وتقع مدينة الجبايش الذي ارتبط اسمها بتاريخ حضارة من قصب وطين منذ الاف السنين الى جنوب مدينة الناصرية بحوالي 100 كم تسكنها عشائر بني أسد اما اعداد سكانها فقد تجاوز الثلاثين الف بعدما احيطت بهم ظروف قاسية وتهجير واعتقالات مستمرة افقدت الكثير من احبتهم ,وهاجر العديد الى دول العالم ولازال منهم يعيش في الدول الاوربية رغم تحسن الاوضاع المعاشية واعيدت اليها اكثر من معلم الا نها تطمح بالعديد وهذا لايتناسب مع طموحها وتضحياتها خلال عشرات السنين , في السابق اشتهرت مدينة الجبايش ببناء الصريفة والصريفة هي ( صريانا ) في الارامية تعني الكوخ , لقد عانت مدينة الجبايش في عهد الاحتلال التركي الاهمال التام لأسباب طائفية معروفة بحيث لم يصلها اي شيىء من الوالي العثماني ولم يذكرها سوى بجمع الضرائب وتطبيق سياسة العنف, وكانت ملاذ لكل من عارض السلطات المتعاقبة التي حكمت العراق ,في السابق اعتمد سكان القضاء على موارد حياتهم على الصيد المائي وجمع القصب وحياكة الحصران التي تسمى ( البواري ) وتصديرها الى سائر مدن العراق وحتى الخليج العربي وايران ومما ساعد على هذه الاعمال طبيعة المنطقة التي اشتهرت بتواجد الاهوار والقصب , اضافة الى انها تمتاز بتربية انواع الجواميس وفيها ثروة سمكية هائلة ,قيل لي احد المعمرين فيها انهم في زمن الماضي لايعرفون الامراض المستعصية ولم يصابوا باي امراض مزمنة وبعد تجفيف منابع الاهوار بالتأكيد انتشرت امراض العصر لديهم , اشتهرت هذه المدينة بالثقافة والشعر وفيها شعراء كان لهم دورا كبيرا في رفد الشعر الشعبي رغم ان النظام البعثي تعمد في اقصائها وحرمانها من ابسط الامور الثقافية وتجنيد اهلها لصالحه الا انه برز الكثير من شبابها يحملون الشهادات العليا واصبحوا ذو شأن من جراحيين واختصاصيين ولازالت ولودة بقدراتها وحي بتعاملها مع المنعطفات السياسية لتثبت للعالم انها مفخرة الجنوب, في شهر الثاني من عام 2016 زار القنصل الفرنسي في الناصرية اهوار مدينة الجبايش واستمع من الأدارة المحلية الى اهم المشاكل والأزمات , وقبل ان تدرج مدينة الجبايش ضمن لائحة التراث العالمي ’ عارضت تركيا هذا الملف بشدة بسبب ارتباطها بملف المياه والسدود وأصر الجانب التركي الى التحفظ وحث جميع المشاركين في التصويت الى رفض هذا المشروع , وبعد المحاولات والاصرار الشديد من قبل القائمين على هذا الملف عمت الافراح والمسرات بين سكان تلك المناطق حينما اعلن عن تصويت منظمة اليونسكو التابعة للامم المتحدة على ادراج الاهوار والمناطق الآثرية العراقية على لائحة التراث العالمي منهية شهور من الكفاح ويحتاج ملف العراق الى 14 صوت للحصول على نتيجة الانضمام من اصل 20 وتحقق ذلك وهذا وسام توشح فيه اهالي تلك المناطق نتيجة جهادهم الطويل وبذل مزيد من الدماء والعطاء وصبرهم واصرارهم على ان تبقى اثار الجنوب من الاهوار والمستنقعات المائية زاهرة وبراقة ولم يتغير طعمها وشكلها امام العالم جميعا .
مقالات اخرى للكاتب