هناك حضارات عصرية تافهة,جلبت معها التكنولوجيا وأخذت معها راحة البال,جاءت لتبعد الناس عن حياتهم الطبيعية,وتحولهم إلى ماكنة تعمل بمواقيت محددة الأجر,لكنها طورت من غذاء البشر,فطعمت غذائهم بالمواد الكيميائية، هي بالفعل حضارة متمدنة لكنها محملة بالسموم والأمراض ,والسلب النفسي والروحي للإنسان,فكيف بها وهي تعبر إلى بلدان العالم الثالث,فتسحق ماتبقى من فطرة الحياة التي فطرها الخالق عز وجل,حتى صار الفلاح يترك أرضه في مقابل حياة منظرها التوهج وباطنها التعب والإذلال في المهن البسيطة,اما تلك الحضارة التي ينقدها الكاتب جورج طرابيشي في معرض رده على استفهامات وانفعالات محمد عابد الجابري (في كتاب نقد نقد العقل العربي-نظرية العقل)، ليرفع من شأن الحضارات الشرقية القديمة المحبة للطبيعة أو الصديقة للبيئة(بابل ومصر والهند والصين وبلاد فارس)، فهي حضارة متجاوزة للواقع والظروف التي تعيشيها بلداننا الفاشلة في كل المجالات تقريبا,لديها مزارع الكترونية هائلة وكافية لضمان الأمن الغذائي لشعوبهم (وان كانت فيها نسبة الجرعات الكيميائية عالية).
لماذا ترك الفلاح العربي والعراقي أرضه؟
ومن يعمل على محاربة منتجه الزراعي؟
لقد جاء قرار مجلس الوزراء العراقي برئاسة السيد نوري المالكي متسرعا وغير واضح المعالم,خرج إلى الإعلام بطريقة هجومية استفزازية ,وقفز إلى الشارع دون مقدمات وبلا معلومات(إلغاء البطاقة التموينية واستبدالها بمبالغ نقدية).
فهاج الناس من شدة الصدمة ,دون معرفة بالأسباب الحقيقية الموجبة للإلغاء(أسباب الفساد غير مقنعة للشارع,بل تستدعي استقالة الحكومة ,التي أعلنت إنها غير قادرة على ضبط عقود البطاقة التموينية وضمان توزيعها بشكل سليم ,فكيف بالعقود الإستراتيجية المهمة كعقود النفط والسلاح ...الخ)، أو ترك مجال للحكومة لشرح نتائج خططها البديلة.
أقول لمجلس الوزراء بغض النظر عن ارجحية كفة الإلغاء أو البقاء (مع إني شخصيا أقف مع الإلغاء ولكن بشروط, لان الفساد الحاصل في هذه العملية رهيب,وهناك أناس أصبحوا من أصحاب المليارات بفضل الحصة التموينية الرديئة).
ماذا لو قال مجلس الوزراء:إن الحصة التموينية باقية وستتحسن ,ولكن سنترك للمواطن حرية الشراء للمواد المستوردة من وزارة التجارة ,أو إضافة شيء من مدخراته لتحسين قدرته الشرائية النوعية,وذلك بمنحه مبلغ مالي مجزي,نفس العملية ولكنها تقدم بطريقة واضحة وعملية,(هذه العملية كانت مطبقة أيام النظام البعثي البائد ,وهو دعم المواد الغذائية الحكومية المستوردة-لاشيء يمس قوت الشعب عدا تغيير طريقة التوزيع بمنحهم مبالغ مالية لشراء الحصة الغذائية-علما إن نسبة عالية لازالت تبيع قسم من حصتها التموينية لتوفير مبلغا من المال لشراء حاجات أخرى).
كان على الحكومة ان تعزز حصة الفرد من التعويض المالي المفترض(البدل المالي عن الحصة التموينية),بحيث يجعل منه تعويضا عن الحصة التموينية ,وبنفس الوقت اقرب إلى فكرة الضمان الاجتماعي والصحي(يعني لانعرف كيف تفكر الحكومة، والناس تستجدي قيمة أجرة كشفية الطبيب في العيادات الخاصة-هل تريد منه إن يأكل ويموت من المرض).
المالكي مطالب بالعمل الجدي المنظم,بعد ان سمعنا إنهم تراجعوا عن قرار الإلغاء,بحيث تكون القرارات التي تمس حياة المواطنين مدروسة بشكل أفضل,وان تطرح عبر وسائل الإعلام لقراءة استطلاعات الرأي,ودراسة مواقف وأراء ومقترحات المواطنين ,وتقييمها من قبل جيش المستشارين الذي تعج بها قاعات مجلس الوزراء أو الأمانة العامة التابعة له.
وإذا كانت عملية إلغاء البطاقة التموينية عملية مؤجلة,فعليهم إن يحسبوا للضمان الصحي حسابه أيضا,بطريقة أخرى يكون المبلغ المحدد ضمان للغذاء والدواء(على غرار قرارات الأمم المتحدة التي سمحت للعراق ان يبيع نفطه في مقابل الغذاء والدواء).
تبخلون على الناس وتفتحون أبواب خزينة الدولة على مصراعيها للصرف المفرط (تحت عناوين المنافع الاجتماعية-أثاث وبيوت وسيارات الدفع الرباعي المخصصة للمسؤولين-وإقامة المؤتمرات المحلية والعربية الدولية دون نتائج مرضية-والاحتفالات الاقتصادية والأدبية والسياسية الشكلية-وتتبرعون بأموال الشعب إلى بعض الدول).
وتبخسون الناس أشياءهم,إذا كانت التعويضات المالية لايمكن زيادتها من الموازنة, فعليكم ان تقللوا من رواتبكم ومنافعكم الاجتماعية,التي تكلف ميزانية الدولة المليارات من الدنانير (ولعلها مليارات الدولارات).
في النظم الديمقراطية يتساوى الجميع,ما يأكله المسؤول وأبناءه أو عائلته ,متاح لبقية الناس الفقراء أو من محدودي الدخل,لايمكن ان تبقى عيون أطفالنا تنظر إلى أبناءكم ولعابها يسيل على قطعة بسكويت او شكولاته أجنبية مستوردة خصيصا لكم(مع العلم إني لا اقتنع إن في العراق ملياردير أو مليونير اما سارق أموال النظام السابق أو الحالي,لأننا بلد كانت أنظمته شمولية شبه اشتراكية,وقد اعدم النظام السابق اغلب تجار بغداد واستولى على أموالهم,وحرم الناس من التجارة الخارجية وحتى الداخلية,خرج من الحصار الاقتصادي محطما,كيف يصبح الإنسان غنيا في غمضة عين,قد يقول قائل التجارة شطارة-نقول نعم ولكن هل سمعتم شخصا يتاجر بميزانية الدولة ومشاريعها الوطنية).
إذا أراد السيد رئيس الوزراء ان يحفر اسمه في تاريخ العراق الناصع(مع انه لم ينصع ولا مرة في تاريخه السياسي الطويل ,إلا بالأسماء البعيدة عن مركز القرار السياسي). ان يحارب الفساد المالي والإداري(وان يقدم على إصدار قرار من مجلس الوزراء, بعد تعذر إصداره من قبل مجلس النواب, يتعلق بفقرة من أين لك هذا؟. على غرار حملة ملك الأردن الأخيرة التي طالت احد رجاله السابقين),وان ينصف الفقراء والمحرومين والمغيبين والمبعدين والمحرومين والمهاجرين من خلال تعويضهم تعويضا لائقا,وتوفير فرص العيش الكريم لهم,وان يقوم بحملة القضاء على الفقر في العراق,وإعادة نظام التغذية المدرسية الصحية ...الخ.
اما بخصوص ضمان توفر المواد الغذائية المحلية,ففي مقالات سابقة شرحنا لوزارة الزراعة الطرق العالمية الحديثة التي تساهم في تشجيع القطاع الزراعي,من خلال تقسيم الأراضي الصالحة التابعة للمحافظات.
(تقسيمها إلى مساحات محددة وتؤجر للمستثمرين بأسعار رمزية تشجيعية).
والمساهمة في توفير الأسمدة والآلات والمعدات الزراعية عبر مكاتب الوزارة المنتشرة في المحافظات.
(أو إعفاء تلك المواد من الضرائب والتعرفة الكمركية).
لديكم ثروات عراقية مهاجرة,يمكن السماح لهم بتأجير مزارع الوزارة التابعة لها في المحافظات,والسماح لهم باستيراد الخبرات والآلات والأفكار الأجنبية المتعلقة بالزراعة وتنمية الثروة الحيوانية,دولة لديها كل هذه الطاقات والخبرات العلمية والثقافية والأدبية تعاني من سوء التخطيط والتنفيذ والتفكير والإدارة!
فهذه المزارع ستساهم حتما في تأمين جانب معين من الثروة الغذائية المحلية,أو لعلها تقضي على العواصف الترابية المتزايدة,وتجمل منظر المدن العراقية القاحلة.
هل هذه الأفكار تحتاج إلى خبراء وعقول فذة لكي تطبق؟
هل تحتاج إلى إن تقام مؤتمرات وندوات وإيفادات إلى الخارج حتى تنفذ؟
إلى متى يبقى هذا الجمود العقلي طاغي في صورته الظاهرة على حركات وعمل المسؤول العراقي الخامل,الذي لازال يعمل بعقلية وضع حجر الأساس!
تحت عمارتنا حديقة نموذجية افتتحتها بلدية المنطقة,كل شخص لديه فيها أربعة أمتار مربعة ,تستأجر لمدة ستة اشهر أو سنة ,فتزرع من قبل المستأجر بالخضروات والفواكه,لان سكان الشقق السكنية غير قادرين على زراعتها,فهل هذه الأفكار صعبة على عقول بلاد الرافدين!
مقالات اخرى للكاتب