لقد سعى الطغاة بشتى الوسائل لطمس ذكر أهل البيت (عليهم السلام) وعلى قول معاوية حينما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله (دفناً دفناً) ، فلم يكن يستطيع التحدث بفضلهم ومناقبهم وإلا اعدم أو سُجن وهُدمت داره وقطع رزقه من بيت المال، وبقي قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) مخفياً أكثر من مئة وثلاثين عاما لا يعرفه إلا الأئمة المعصومون (عليهم السلام).
وتعرض زوار قبر أبي عبد الله (عليه السلام) إلى التنكيل والقتل وفرض الغرامات الباهضة من دنانير الذهب ونُشرت مفارز الشرطة للقبض على الزوار ومنعهم ولكن الأئمة كانوا يحثون على زيارة الحسين (عليه السلام) وإقامة مآتمه ومجالس العزاء والبكاء عليه ووردت الروايات المعتبرة الكثيرة في فضل هذه الأمور وثوابها بما صعب على كثيرين الإيمان بها كتفضيل زيارة الحسين (عليه السلام) على كذا حجة وعُمرة وغفران الذنوب بالبكاء على الحسين (عليه السلام) وإنّ من نظم في رثاء الحسين (عليه السلام) بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة ونحوها، ولو نظروا إلى هذه الروايات بلحاظ الأجواء الرهيبة التي كانت تعصف بالأمة في زمان صدورها والخطر العظيم الذي كان يتهدد أصل وجود الدين لولا شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وإدامة ذكره لعرفوا قيمة تلك الأعمال واستحقاقها عند الله تبارك وتعالى.
ولذا حرص الأئمة (عليهم السلام) على إقامة مجالس العزاء على أبي عبد الله (عليه السلام) في دورهم وبحضور محبيهم وأفراد اُسرهم، ويشيدون بالشعراء الذين وقفوا بشجاعة وإيمان وصدحوا بتلك القصائد الخالدات في بيان فضل أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم وفضح أعدائهم وغاصبي حقوقهم، كدعبل الخزاعي والكميت الأسدي ونظرائهما.
وأوصى الإمام الباقر (عليه السلام) أن يُدفع من ماله للنوادب ليندبنه عشر سنين في منى، ولا يخفى ما لهذا الاختيار للزمان والمكان في فضح أولئك الطغاة ولفت انتباه الأمة التي تأتي إلى الحج من كل بلاد المسلمين إلى أحقية أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم وما مرّت عشر سنين على استشهاد الإمام الباقر سنة 114 هجرية حتى انطلقت الثورات المسلحة في وجه الأمويين (كثورة زيد الشهيد سنة 121 أو 122هـ) ولم تنته بسقوط دولة الأمويين سنة 132هـ وقيام دولة بني العباس على شعار (يا لثارات الحسين (عليه السلام)).
ولم ينقطع سيل التضحيات وقرابين الشهداء في سبيل إقامة شعائر الله تعالى وإدامتها حتى الأمس القريب حيث كان صدام وجلاوزته شديدي القسوة لإطفاء هذا النور الإلهي، لكن الأبطال الذين تربوا في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) وتغذّوا من مبادئه قاوموا بكل شجاعة (كالذي حدث في انتفاضة زيارة الأربعين بين النجف وكربلاء عام 1977)
هكذا وصلت إلينا هذه الشعائر أيها الأحبة مضمّخة بدماء الشهداء الزكية وتضحيات الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) وانتم تنعمون اليوم بعطرها ولذة إقامتها والمشاركة فيها بحرية ويسر بفضل الله تبارك وتعالى.
وقد يتأسف بعض من المتحمسين للتضحية والفداء على نهج الحسين (عليه السلام) بأنه لم يكن ممن أحياها في زمان العنت والمشقة، ولكنه قد يهوّن الخطب عليه حينما يلتفت إلى ان عدالة الله تبارك وتعالى تقتضي جعل فرص الطاعة متكافئة للجميع فلا يوفّر فرصة منها لجيل حتى يوفّر مثلها للأجيال الأخرى لكنها قد لا تكون متطابقة أو متشابهة لكنها متكافئة، فإقامة الشعائر اليوم لا تخلو من التحديات التي لا تقل عن تلك وإن اختلفت نوعيتها، وقد شبّهنا المعركة في تلك القرون بمعركة التنزيل، ومعركة اليوم على التأويل كالتنوع بين معركتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فمضافاً إلى تحديات الإرهاب والقتل والتفجير التي يقوم بها أحفاد الأمويين ومن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً مستهدفين زوار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ومقيمي عزائه تواجه الشعائر اليوم تحديات في الشكل والمضمون.
أما بالشكل فقد أصبح أداء الكثير من المراثي والمواليد مطابقاً لألحان الغناء المحرم وطرقه وتصاحبه حركات و آلات موسيقية، وبعض ما يسمى (فيديو كليب) لا يختلف عما ينتجه أهل الفسق.
وخلت من الأجواء القدسية التي تضفيها ذكرى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
وأما بالمضمون فقد تحول الكثير من المراسيم خصوصاً في زيارة الأربعين والشعبانية إلى ما يشبه الفلكلور الشعبي الذي اعتادته كثير من الأمم ووضعت له برامج وفعاليات من دون أن يستلهم معاني الثورة الحسينية، والأهداف التي سعى الإمام (عليه السلام) لتحقيقها وطالب الأجيال كلها بنصرته في تحقيقها، بل إن الكثير من المشاركين مخالفون لتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وتاركون للواجبات ومرتكبون للمحرمات فواجبنا اليوم تنقية هذه الشعائر المقدسة وصيانتها من الانحراف عن مسارها الذي وضعه لنا أهل البيت (عليهم السلام) وترسيخ القيم والمبادئ التي شادتها الثورة الحسينية المباركة، وهي إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة السنة وإماتة البدعة وتحرير العباد من طاعة الشيطان والأهواء و الطواغيت ليعودوا إلى عبادة الله تعالى وحده.
وهذه مسؤولية تقع على الجميع: سواء الخطباء على المنابر أو الشعراء الذين ينظمون القصائد أو الذين يتلونها أو غيرهم.