رفض نظرية المؤامرة، في الاقل بالنسبة لي، لا يعني عدم وجود مؤامرات وراء الكثير من الصراعات، او لا وجود لسياسيين وفئات وقيادات وزعامات دول يتآمرون علينا، وعلى بعضهم البعض، فالمؤامرة وسيلة قديمة لكسر شوكة الخصوم منذ تكون المجتمعات، وفي عمق الموروثات والأخيلة والروايات التاريخية والدينية، تكفي الاشارة الى “المؤامرة” التي وضعها قابيل لقتل اخيه هابيل، حتى مسرحية وليام شكسبير"يوليوس قيصر" المشيّدة على اساس مؤامرة حيكت على الملك من قبل وزيره بروتس الذي غرز الخنجر في ظهره، فلفظ انفاسه الاخيرة وهو يردد عبارة: حتى انت يابروتس، كما تطورت ادوات تنفيذ المؤامرة من حجر قابيل الى خنجر بروتس، عبر الحربة والسيف والسهم واصابع اليدين والنار والحبال والسكين، ومن التآمر بالسم الى احدث تقنيات القتل والاغتيال واحتلال الدول وإحلال الاقدار.
فالمؤامرة في الاصطلاح المدرسي هي "مكيدة" وهي من اصل الفعل "أمَرَ" وتأتى بمعنى التشاور و"الامارة". وأمرَ محمد فلانا بمعني كلفة بشيء، والقول (القاموسي) انهم تآمروا، يعني انهم تشاوروا حول أحدهم، اي اتفقوا على ايذائه، وفعل الايذاء يعطي للتشاور صفة التآمر، مسبوقة بايحاءات مطَمْئنة للضحية (شخصا أو جماعة) تؤدي الى الغفلة، وكلما كان الضحية قليل التحسب والحذر واليقظة كان اسهل للوقوع في شباك المؤامرة.
اما نظرية المؤامرة فهو اصطلاح حديث في علوم السياسة، وقد دخل في الاستخدام منذ العقد الثالث من القرن الماضي على هامش الصراع المستفحل بين الكولونياليات، والانشقاق في النظام الدولي بتأسيس الاتحاد السوفيني، وانتشار اعمال الاغتيال السياسي وتراجع الفكر الموضوعي والتحليلي المستقل، وقد اصبح هذا المصطلح منهجا لتفسير الاحداث مع صعود الحرب الباردة، وشمله "قاموس اوكسفورد" بالاهتمام فصاغه بالكثير من الحذر بوصفه "محاولة لشرح السبب النهائي لحدث او سلسلة من الاحداث السياسية والاجتماعية او التاريخية على انها اسرار" وغالبا ما يحال الامر الى عصبة متأمرة بشكل منظم هي وراء الاحداث.
ومع تعقد وتشابك الصراع الدولي والصراعات المحلية، والتغيرات العميقة على وعي الجمهور والضغوط الهائلة على هذا الوعي فقد قدمت نظرية المؤامرة (كل حدث وراءه مؤامرة) خدمات جليلة للذين اختلطت عليهم الامور وصعُب عليهم البحث الصبور، الواعي والموضوعي، في خلفيات الاحداث، كما ساعدت المسؤولين عن الاخفاقات والفشل والنكسات على رفع اللوم عن النفس وإبراء الذمة عنها وإلقائه على متآمرين، وهكذا تتحول "نظرية المؤامرة" من رؤيا سياسية لتفسير الاحداث الى مخدر ومثبط للعقول، وعقار للاسترخاء على وسادة العجز، باعتبار ان المؤامرة اكبر منّا.. ونحن صغار، لا حول لنا ولا قوة.
"إصْبر على كيد الحسودِ فإن صبرَك قاتله".
عبدالله بن المعتز- خليفة عباسي
مقالات اخرى للكاتب