يكاد ان يكون الحنين الى الماضي والتعلق بأذيال التاريخ ـ غالباً ـ في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، راسخاً في الثقافة الشعبية المتوارثة عبر الاجيال ومحركاً للسلوك والوعي الجمعي العام، واضعاً بصماته بوضوح على تفاصيل حياتنا اليومية وعلى طرائق تفكيرنا، والاهم من كل ذلك ــ آنياً ــ في كيفية مواجهتنا للازمات المتفاقمة من حولنا في كافة مناحي الحياة، ويقع في مقدمة هذه الازمات تصاعد وتيرة العنف والتطرف والارهاب، والتصدعات المجتمعية الحادة، وتهديد امكانية بقاء واستمرار عيشنا المشترك وطناً وشعباً.
غير ان مقومات هذه الثقافة تعرّضت لجملة من المؤثرات وحصل فيها كم متنوع من الاضافات والتعديلات الناتجة عن تراكم التجربة والخبرة الانسانية، والتي ادت بدورها الى وجود تمايز في المواقف والرؤى ، وتوافر توجهات موضوعية لقراءة هذا التاريخ وادراك كنه تناقضاته الداخلية لدى قوى اجتماعية تتباين في حجم تمثيلها المجتمعي باختلاف مراحل التاريخ، وبدرجات متفاوتة في طبيعة استلهامها و فهمها للماضي والحاضر.
ان التاريخ الانساني عموماً يضم في احشائه و بين طياته خزيناً هائلاً من الخبرات والثقافات والمعارف والابداع البشري، اضافة للحروب والصراعات والتناقضات المتنوعة. وما الحضارة الكونية التي نعيشها الان والانجازات والطفرات المتلاحقة في العلوم والتكتولوجيا و سائر الفنون والاداب، والانتشار المتزايد لثقافة حقوق الانسان، إلا من نتاج الابداع والتفاعل والتناقض لمكونات هذا التاريخ.
وقد كان لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية سيرورة تطوره الخاصة مؤثراً ومتأثراً بغيره، وله في كل حقبة من حقب التاريخ ثقافته السائدة، والمقصود هنا كل ما يشتمل عليه النتاج الفكري لمجتمع محدد في عصر محدد، وينطبق هذا الامر على مجتمع الجزيرة العربية في عصر التحوّل الى دولة الخلافة.
ان دولة الخلافة التي انبثقت مع فجر الدعوة الاسلامية شكلت نقلة نوعية في مجتمع الجزيرة العربية، واطاراً سياسياً لتنظيم حياة الناس الدينية والدنيوية، ولادارة السلطة والثروة التي راكمها النشاط الاقتصادي والتجاري الناشيئ عن السيطرة على ثروات البلدان المفتوحة ، وقد مثلت دولة الخلافة ، في الوعي الجمعي لجمهور المؤمنين ، انتقالاً من الظلمات الى النور ، وقامت على فلسفة طاعة ولي الامر. وهنا يجري الحديث عن الطابع السياسي المحظ لدولة الخلافة بعيداً عن الدين رغم الترابط والتمايز بين السلطتين الدينية والدنيوية. حيث يبقى الدين كعقيدة وعبادة حاجة ضرورية وسيكولوجية لضمان التوازن النفسي والاجتماعي لجمهور المؤمنين، واختياراً انسانياً يتوجب احترامه في اطار حرية العقيدة.
وتوفرت لسلطة الخليفة على امتداد قرون طويلة هالة من القداسة المستمدة من فكرة الطاعة ورمزية الخلافة، بغض النظرعن حكمة وعدالة الخليفة، او مظالمه و فساده، و طيشه، مستعيناً بعدد لا يحصى من رجال الدين الاتباع واشباههم للعمل على تكريس نزعة الحنين الى ماضي التأسيس، لتبرير شرعية تحكمه بالبلاد والعباد، خصوصاً وان الفتوحات واتساع رقعة الدولة ساهمت في تعاظم مداخيل بيت المال، والثروات الشخصية للولاة والسلاطين وقادة الجيوش واصحاب النفوذ.
ما يعني تبلور نظام من الامتيازات الطبقية لسلطة الخلافة، ومنظومة فكرية لتبرير سطوتها، وقد لعبت الفتوى دور الماكنة الاعلامية لاضفاء صفة القداسة على سلطة الخليفة (الوالي)، ولي امر الرعية، لفرض فكر الطاعة والزام رعيته بها. اي ان فكر الطاعة في هذه الحالة يتلبس لبوس الدين ويتعداه الى الفلسفة والسياسة والاخلاق والتشريع... وكل ما يتعلق باسباب الحياة الاجتماعية للناس.
ما اريد قوله ان ثنائية الطاعة وقدسية القائد، والانشداد للماضي شكلت الاساس الفكري للاستبداد والتعصب والانغلاق، التي تحكمت بتاريخنا لعهود طويلة، وما زالت مؤثرة حتى الان، وستظل، وسنظل نعاني منها ما لم تقتلع جذورها المادية والفكرية . كما كان للطاعة ولسلطة المقدس دوراً في اشاعة وسواس الخوف من تقبل الجديد باشاعة مفهوم ضلالة البدع، وحصر الاجتهاد بما يتوافق مع هذه الثقافة حصراً.
يشير عبدالرحمن الكواكبي(1855ــ 1902) في كتابه (طبائع الاستبداد) الى ان " اشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحاصل على سلطة دينية."
غير ان مسار التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدولة الخلافة، افرز ايضاً العديد من الحركات الفكرية والسياسية والانتفاضات والثورات الاجتماعية احتجاجاً على الاستبداد، والظلم والقهر، وطلبا للعدالة المفقودة، وعدد لا يحصى من حروب اسلامية - اسلامية باعثها الأستحواذ على الثروة، النفوذ، والسلطة وشعارها الدفاع عن العقيدة. وكان من النتائج المبهرة لهذا التطور وصول دولة الخلافة الى عصرها الذهبي، في ما يعبر عنه تاريخياً بعصر الحضارة العربية الاسلامية.
وقد حصلت هذه الاشراقات المضيئة، في عصرالانزياح النسبي لما اصطلحناعليه (ثنائية الطاعة والقداسة) من تاريخنا العربي الاسلامي في القرن التاسع الميلادي(العصر العباسي الاول)، والتي بلغت اوّجها في حكم المأمون بين (813 ــ833)م، وتجسدت في التفاعل الخلاق للثقافتين العقلية والروحية. وكان من اهم سمات العصر العباسي هو الانفتاح الفكري والتسامح الديني والاهتمام بالعلوم والمعارف والفنون والاداب والفلسفة والصناعة والزراعة، كما يؤكد ذلك المؤرخون من مختلف الملل والنحل.
وكانت الحضارة العربية الاسلامية في جوهرها نتاجاً لتنوع الاعراق والاجناس والثقافات والاديان، ساهمت فيها جميع الامم والشعوب التي خضعت لحكم الخلافة الاسلامية وقدمت ابداعاتها باللغة العربية، ولابد من التنويه هنا بان هذه الحضارة محصلة لتطور عصر تاريخي تميّز بالانفتاح على جميع الحضارات السائدة وتفاعل معها ــ حضارات البلدان المفتوحة ــ ولم يرتبط التطور الحضاري للامم والشعوب تاريخياً بأي دين.
وعند انتقال الخلافة العباسية للخليفة المتوكل بين (847 ــ861) م، جرى اعادة الاعتبار الى نظام (الطاعة والقداسة)، حيث تبنّت دولة الخلافة نهجاً جبرياً يقوم على فكرة ان "الانسان مجبور في افعاله" وبذلك اوصدت الابواب امام الحريات العقلية واعلنت الحرب على الحركات الفكرية والدينية والسياسية، وقد وصل الامر الى حد اتهام الكندي (الفيلسوف العربي الاسلامي 805 ــ 873 م) بالزندقة. من هنا بدأت الحضارة العربية الاسلامية بالافول، ودخلت عصور الانحطاط والظلام.
يكتب هاشم صالح في مقدمته لكتاب محمد اركون (نحو تاريخ مقارن للاديان التوحيدية) : " ان التنوير العربي ــ الحضارة العربية الاسلامية ــ أُجهض بوصول السلاجقة الاتراك الى السلطة، فاستخدموا الغزالي (1111ــ 1058)م، كمنظر ايديولوجي لهذا الانقلاب الخطير على العقل والفلسفة. ومعلوم انه كفَّر المعتزلة والفلاسفة على حد سواء". وبذلك تم الختم بسلطة المقدس على عقول العرب والمسلمين وحرمهم من حرية الابداع والتفكير، وحوّلهم الى قطيع يعيش على ثقافة الطاعة. وهنا مرة اخرى ليس الدين هو المعني، وانما مكبلات العقل العربي التي ارتبطت بالدين جهلاً او قصداً.
والمعتزلة فرقة اسلامية ظهرت في القرن التاسع الميلادي وسلكت المنهج العقلي (العقل مقدم على النقل).
مثل انهيار عصر التنوير العربي، دخول الامة العربية والاسلامية مرحلة تاريخية طويلة جداً من التخلف الحضاري امتدت حتى افول دولة الخلافة المتمثلة بالسلطة العثمانية ، حيث دشن العرب عصراً جديداً اطلق عليه عصر النهضة العربية خلال القرن التاسع عشر، والذي ترافق مع التقدم الهائل الذي احرزته الدول الاوربية، وتأثرت به، وافضت النهضة الى بعث مشاعر الهوية القومية والوطنية، وتبني شعارات الثورة الفرنسية (الحرية، العدل، المساواة).
وقد اكد المفكرون العرب ورواد النهضة على ان في توافر الحريات الفكرية والسياسية والانفتاح على العلوم العقلية والتقنية، تكمن مفاتيح النهضة. ولكن يبقى السؤال الجوهري ملحاً حتى اللحظة، اين نحن من اسباب ومقومات النهوض وقد وصلنا على اعتاب الالفية الثالثة ؟؟، ماذا فعلت بنا سطوة التاريخ ولماذا ؟، اليس التخادم بين السلطة والقداسة والسياسة من افضى الى اقصاء المختلف، وأتهامه بالمروق، لكي يكون دمه طريقاً الى الجنة ؟.
" ان مشكلة العالم الاسلامي هو غياب الوضوح في خصوص المسألة الجوهرية المتعلقة بالعلاقة بين الاسلام والقانون والدولة"، كما يذكر المفكر التونسي محمد الشرفي في كتابه (الاسلام والحرية ــ الالتباس التاريخي). ويبدو ان هذا الالتباس التاريخي سيكلفنا مزيداً من الدم، كلما تأخرنا بفك الاشتباك بين الدين والسياسة، وتعصبنا للعشيرة والطائفة والقومية على حساب الوطن.
مقالات اخرى للكاتب