لم أكن أصغي إلى حديثه وهو يخبرني بما جرى في عيادة الطبيب، امتزجت كلماته بالضحكات الهستيرية كأن مسا قد أصابه أو فيروسا حاسوبيا ضرب خلاياه الدماغية، يحدثني عن الحيرة التي وقع فيها الطبيب وهو يحدق فيه دهشان من رد فعله العجيب، مشفققا على الزوجة المسكينة:
لو امتلك طبيبي طوق نجاة لحار إلى من يلقيه، بعدما جلجلت ضحكاتي حتى أدمعت عيناي وسال لعابي ومخاطي كطفل تائه، وغرقت في موجة ضحك عبثية، فيما راحت هذه المسكينة تصارع سيلا من الدموع كاد ينذر بطوفان جديد، أظنها كانت معه أحوج إلى طوق نجاة، لكن طبيبي اختار نفسه لينقذها من الحيرة والاستغراب، فقطع تلك الكوميديا السوداء بالقول:
أكرر ما قلته لكم، التقارير التي أمامي تؤكد سلامتكما من أي مانع للحمل، فلا عيب عضوي في كليكما، ولكن، في مثل هذه الحالات التي يعجز الطب عن تفسيرها يعزى السبب إلى عطب نفسي لا جسدي...أحدكما لا يرغب في الإنجاب، قد لا تريد هي أن تصبح أماً الآن، وربما تكون أنت من يرفض أن يكون أبا.. وربما أسباب أخرى ستظهر مع المزيد من التحاليل، لا تقلقا فما تزالان صغيرين والعمر أمامكما ولم يمض على زواجكما سوى عامان لا داعي للقلق....
لم أكن مصغية، فكري شارد وتعتصر قلبي مشاعر غريبة، تراودني أفكار كثيرة هذه الأيام بعدما رحل زوجي وتركني وحيدة...لست وحيدة تماما، ولكن لا أدري لماذا حملني رباب الذكريات إلى بغداد إلى أيام طالما رغبت في محوها من ذاكرتي، إلى تلك الساعات العصيبة التي لم تشأ أن تدع فكري يرتاح منها ولو لهنيهات، وأنا أسمع صوتها يتعالى و صيحاتها تتوالى حتى كادت تشق أسجاف السماوات، حين امتزجت صرخات الطلق بعويل الندب والحزن والألم، وافاجعتاه، لقد حملت إليها خبر استشهاد زوجها في جبهة القتال، كنت في موقف لا احسد عليه، اتصل زوجي الضابط ليبلغني أن عديله الجندي المكلف قد قضى شهيدا وكلفني أنا إبلاغ شقيقتي الحامل في شهورها الأخيرة بهذا النبأ المفجع، أي غراب أنا؟
مرت ساعات المخاض طويلة وعسيرة، بل كانت لحظاتها مرعبة لي ولامي (رحمها الله) التي ما انفكت تدعو لهذه المسكينة قليلة الحظ لكي يفرج الله كربتها ويقيمها بالسلامة، أما كفاها الفقر و شظف العيش و مسؤولية البيت والطفلين في غياب أبيهما الجندي البسيط في جبهات القتال؟ ماذا سيحل بها بعد أن رحل؟ كيف ستدبر معيشة الصغار؟ وماذا عن القادم الجديد الذي هيأت له الحياة قبل أن يرى النور وجها عابسا واستعدت للفه بقماط الحداد؟ اللهم لا اعتراض، ليس لبناتي حظ في هذه الدنيا، أردفت امي، هذه الأخرى (تقصدني) هيأت لها المال والجاه وحرمتها من الأولاد! فيما أنعمت على شقيقتها بالأولاد وضيق ذات اليد، صدق المثل القائل (لو مال لو نمال)، اللهم لا اعتراض.... أخيرا، انتهى المخاض بولادة ذلك الملاك الصغير ذي البشرة الوردية، سبحان العاطي، قال الجيران، أخذ الوالد وأعطى الولد، حكمتك يا رب، هل أبدلت روحا بروح؟
بثيابهم الزيتونية، راحوا يطلقون أعيرة في الهواء، هل كانت حزنا وأسفا على شبابه، أم فخرا بأنه قضى شهيدا؟ ما زلت أجهل الاجابة. لكن صوت الطلقات في زفة الشهيد مازال يرن في أذني حتى ليكاد يصمها، كان موقفا صعبا على الكبار فكيف بالصغار؟ كانت صدمتهم كبيرة، حملقوا وأخذتهم الرعدة، ما كل هذه الجلبة، ولماذا؟ الأهل والأقارب والجيران، فجأة توشحوا بالسواد، وأخيرا وصل العروس في زفة الأبطال، وزفت أختي عروسة للأحزان، والكل يتساءل في صمت تارة وبصوت عال تارة أخرى: أي مصير ينتظر هذه العائلة البائسة؟ هل ستتزوج الارملة الشابة؟ هؤلاء الصغار كيف سيكبرون دون معيل؟ ذلك الوليد المسكين؟ من سيربيه؟ لكن حيرتهم لم تطل، بعدما شاع بين الاهل والجيران ذلك النبأ المشؤوم، تضاعف الالأم وعم الحزن، لقد رحل الصغير عن هذه الدنيا.... فيما رحلت أنا إلى عمان فالحرب قد انتهت، ويريد زوجي الضابط السابق أن يبدأ حياة جديدة مبتورة الجذور، وكذلك أنا لا أريد أي رابط بالماضي... لا اريد صلة به تعكر حياتي الجديدة بعدما رزقني الله بـ(سعد) ليسعد أيامي ويملأها سرورا وبهجة......منذ ذلك اليوم لم أزر العراق أبدا....فلماذا تعود بي الذاكرة الآن إليه؟
قطع صوت رنين جوالي استرسالي في الذكريات، وضحكات ولدي وكفت زوجته عن النحيب، توقفت كل تلك الجلبة وصمت الجميع..
-ماذا تقول؟ متى حصل ذلك؟ تغيرت ملامحي وارتسم القلق على محياي وبدا واضحا أن مصيبة ما قد حصلت.
-أخبرينا ما الأمر؟
واصلت حديثي الهاتفي: حسنا فعلتم بالتأكيد... لا تأبهوا للمصاريف... خذوها الى المشفى الملكي سأهاتفهم الآن لأحجز لها غرفة خاصة...سنكون هناك قبلكم إنشاء الله.
-ما الذي حصل؟
أصيبت خالتك حنان في انفجار اليوم الذي ضرب السوق، حالتها غير مطمئنة لقد نقلوها بالطائرة إلى عمان ستصل بعد قليل هيا أسرعوا لابد أن نكون في المشفى خلال نصف ساعة سأحجز لها في المشفى الملكي لابد أن يفحصها طبيب حاذق أسرعوا ...أسرعوا .
اتصلت في عجالة بالمشفى واكملت اللازم، ثم تركتهم مسرعة إلى غرفتي كي اهيئ نفسي لكن أصواتهم كانت ما تزال مسموعة:
-قومي..أسرعي سنتأخر
-فيم العجلة؟ انتظر لنبحث عن مخرج لمشكلتنا أولا، خالتك لن تطير سنزورها لاحقا.
-الم تسمعي؟ خلال نصف ساعة، أسرعي ولا تطيلي الحديث، سنبحث أمر الاطفال لاحقا، المهم الآن أن نصل في الوقت المناسب، حالتها حرجة ألا تفهمين؟
-حسن لاتغضب، مستعدة للخروج حالما تجهز والدتك، لم انفض عني بعد غبار عيادة الطبيب والآن الى المستشفى...
على قدر قلقه البالغ، كانت دهشتها واستغرابها:
-ما بالك؟ ألم تسمع بانفجارات في بغداد قبل اليوم هذا خبزهم اليومي..ماذا كنت تتوقع؟ كل عراقي عرضة للانفجارات ويضع في حسبانه دائما انه سيموت إما بسبب انفجار أو بمسدس كاتم للصوت أو بالسكتة القلبية خوفا من المذكورين.. وراحت تضحك باستهزاء وهو يغلي..
-أراك كفكفت دموعك ولاحت ضواحكك! حالتها حرجة ألا تفهمين؟
-حالتنا أشد حرجا قد لا تسمع في حياتك كلمة (بابا) وربما أحرم أنا من أن اكون (ماما) ما حييت....
- سنجد مخرجا لذلك كما أوجد غيرنا..
- لم أعهد فيك الحب والتعلق بخالتك الغالية فما بالك اليوم؟ ..كنت دوما نافرا منها ترفض كل دعوات أمك لمجاملتها حين تزور الأردن.. رغم أني أكيدة من رغبتها في إبقائك بعيدا عن خالتك وعائلتها، فهي لم تزر العراق منذ رحلت عنه ألم تسأل نفسك لماذا؟ لعلها لم تشعر بالشوق اليها البتة ولم ترغب في مؤازر ة الأرملة المسكينة معنويا طوال هذه السنوات واكتفت بالمساعدات المادية..
- ألا تنهين وصلتك؟
-أتظنني أجهل الأمور؟ من أين لخالتك حنان رأسمال لتفتح تلك الأسواق؟ وكيف تصرف على أولادها؟ لقد عاشت وأولادها في بحبوحة وكل ذلك من خير أهلك...حتى سنوات الحصار التي أكلت اللحم وأذابت الشحم حتى كادت تدق العظم مرت بهم مرور الكرام و لم تؤثر فيهم كباقي العراقيين...يا لها من لئيمة.. ما أزال أذكر كيف جلست في حفل عرسنا، كأنه الأمس، تبكي كالبومة.. لعلها كانت تريدك لأبنتها؟ أليست أكبر منك سنا؟
- إخرسي رجاءً لقد بدأ صبري ينفد..ابتلعي لسانك الافعواني هذا ..ألا يسلم أحد من لدغاته قط؟
اكتفيت مما سمعت وخرجت مسرعة أسألهم:
-هل انتم آتون معي أم ماذا؟
سحبها من يدها وخرجنا في عجالة نحث الخطى مسرعين والخوف يقتلني من أن نصل متأخرين..
قضينا دقائقنا في الطريق ساعات سادها الصمت الرهيب..هاتفني ابنها مؤكدا وصولهم إلى المشفى مستغربا تأخرنا..أخيرا وصلنا ..صعدنا مسرعين إلى غرفتها وتحلقنا حولها.. ياللمسكينة دموعها تنهمر وهي شبه فاقدة للوعي وليس على لسانها سوى كلمة واحدة:
-ولدي.. ولدي..
انهمر دمعي سجيما، بل لم يقو أحد على حبس دموعه..حتى الأطباء والممرضون أدمعت عيونهم مؤكدة قرب رحيلها عن عالمنا الذي لم تعرف فيه سوى الحزن....
فتحت عينيها تبحث في الوجوه... ارتسمت على وجهها ابتسامة شفيفة حينما لمحت (سعد) سارع وركع عند سريرها وامسك يدها المدماة وراح يقبلها بحرقة وألم، وسط دهشة الجميع الذين وقفوا فاغرين أفواههم يرقبون بعجب ذلك المشهد الغريب..أخيرا نطقت ودموعها انهار تسيل:
-سعد حبيبي، أخيرا...الحمد لله أني رأيتك قبل أن أموت..سامحني يا حبيبي لم يكن الأمر بيدي سامحني يا حبيبي لو تعلم كم احبك.. أريد أن أخبرك أمرا طالما حبسته بين ضلوعي...
-إرتاحي ..لاتتعبي نفسك بالكلام....فأنا أعلم...أعلم....لا أحتاج لمن يخبرني.. قلبي دليلي.. واحساسي مرشدي...كفكفي دموعك...أرجوك لا تبكي..سنصلح كل شيء لا تقلقي..
- فات الأوان يا حبيبي، ...سامحي...سامحوني جميعا، لم أقصد غير الخير.. لكن الدنيا لا ترحم الفقير..ورحى الايام لاتطحن الا عظام المساكين....سيكون صوتك العذب آخر ما اسمع وصورة وجهك الجميل آخر ما اعاين..الحمد لله ...قد هدني التعب... سأرتاح أخيرا...وأغمضت عينيها إلى الأبد، وأطلق (سعد) صرخة عظيمة أسمعت الدنيا كلها : أمي ي ي ي ي ي ي ي ي.
مقالات اخرى للكاتب