أُعلن في احتفالية خاصة بالقاهرة انطلاق “العقد العربي لمنظمات المجتمع المدني” 2016-2026 برعاية جامعة الدول العربية وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي . وكانت “الجامعة” قد بدأت التحضير لهذا العقد منذ العام 2014 وذلك بهدف تعزيز قدرات المجتمع المدني ومشاركته مع الحكومات في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة العام 2030 عن طريق خلق بيئة مناسبة وبناء آليات تعاون ناجحة بين منظمات المجتمع المدني والدول العربية والمنظمات الإقليمية والدولية. وتحضيراً للعقد العربي لمنظمات المجتمع المدني عقدت “الجامعة” عدداً من الاجتماعات التشاورية ، واجتماعاً لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية “العرب” في شرم الشيخ، لاطلاق العقد العربي، وقامت بدورها بعرض المشروع على الاتحاد الأوروبي والمؤسسات التابعة له، لعقد شراكات لتحقيق أهدافه. وفي الاجتماع الاحتفالي بالعقد العربي لمنظمات المجتمع المدني كرّمت ” الجامعة ” الرباعي التونسي الفائز بجائزة نوبل للسلام على جهوده المثمرة ورعاية وإنجاح الحوار الوطني في تونس. ويضم الرباعي التونسي كل من: الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس وتم منحه جائزة نوبل بتاريخ 9 اكتوبر تشرين الأول 2015. جدير بالذكر إن مؤسسة الفكر العربي كانت قد عقدت مؤتمرها السنوي 14 في القاهرة بالتعاون مع جامعة الدول العربية، وكان أحد المحاور الأساسية الذي ناقشه اجتماع الخبراء تحضيراً للمؤتمر أيلول/سبتمبر- كانون الأول/ديسمير 2015 هو: موضوع المجتمع المدني وجامعة الدول العربية – شؤون وشجون، وهو بحث في الواقع والمرتجى، وذلك بتسليط الضوء على ما هو قائم وتقديم رؤية استشرافية مستقبلية لدوره، وخصوصاً باقتراح تعديل ميثاق ” الجامعة” من جهة وإقرار الدول العربية مجتمعة وكل على انفراد بأهمية مشاركته لتحقيق أهداف التنمية، وذلك بالارتباط بموضوع الدولة الوطنية والهوّية والثقافة والأبعاد الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وقد كان لكاتب السطور الشرف في إعداد البحث الذي تبنّاه المؤتمر واعتمد في التقرير العربي الثامن للتنمية الثقافية والموسوم “التكامل العربي: تجارب، تحدّيات ، وآفاق”، وسبق له أن وضع كتاباً بعنوان: جامعة الدول العربية والمجتمع المدني: الإصلاح والنبرة الخافتة 2004.
ويعتبر إطلاق عقد لمنظمات المجتمع المدني تطوّراً والتزاماً بدور المجتمع المدني من جانب ” الجامعة”، ويأتي ذلك في جزء منه انعكاساً أيضاً للتطور الذي حصل في نظرة العديد من البلدان العربية للدور الذي لعبته على الصُعد المختلفة، خصوصاً وقد تم تقييم هذا الدور عالمياً من خلال الرباعي التونسي الذي بذل جهداً قيّما في احتواء الموقف والحيلولة دون اندلاع الصراع وانزلاق البلاد نحو العنف، لاسيّما وإن المنظمات الإرهابية، بدأت بعمليات اغتيال وتفجير وتسلّل عبر الحدود، الأمر الذي بادرت فيه منظمات المجتمع المدني للضغط على جميع الأطراف لتحقيق التوافق والاتفاق لنزع فتيل الأزمة ومنع حدوث الانفجار.وإذا كان ميثاق “الجامعة” قد خلا من أية إشارة إلى المجتمع المدني أو إلى فكرة حقوق الإنسان، فإن التطور الدولي في هذا الميدان، وخصوصاً منذ المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا لعام 1993 اتجه إلى المزيد من توسيع دائرة الاعتراف بالمجتمع المدني، الأمر الذي حدثت استجابة عربية له تجلّت في استحداث منصب ” المفوض العام للمجتمع المدني” في العام 2002 وقد تولّاه حينها طاهر المصري رئيس وزراء الأردن الأسبق، كما كان للمجتمع المدني حضوراً فاعلاً في مؤتمر قمة الكويت العربية للتنمية العام 2009 وكذلك للقمة التي أعقبتها في شرم الشيخ العام 2011 والقمة الثالثة التي تلتها في الرياض العام 2013.
وقد أعلنت هذه القمم التنموية الثلاث عن دعمها لتعزيز وتقوية دور المجتمع المدني وتمكينه من لعب دور الشريك الفاعل للحكومات العربية بهدف تنمية وتطوير المجتمعات العربية. وأكد مؤتمر القمة العربية المنعقد في شرم الشيخ في مارس آذار 2015 على هذا الدور الذي ترجمته “الجامعة” بإعداد وثيقة العقد العربي استكمالاً للجهود الدولية الرامية إلى تقديم نموذج تنموي يستند إلى مقاربات حقوقية من جهة وشراكات دولية من جهة ثانية.
وقد ركّزت وثيقة العقد العربي على الأولويات العربية للتنمية، وأهمية إبراز قيم التسامح والحوار والتشاور والثقة والتضامن والمعاملة بالمثل بما يعزز القيم المدنية والديمقراطية.إن خطوة من هذا النوع تقتضي شراكة ستراتيجية فعّالة وطويلة الأمد، ونظرة انفتاحية بين منظمات المجتمع المدني و”الجامعة”، خصوصاً وإن الجميع في مركب واحد لمواجهة الإرهاب والعنف والتطرّف والمحافظة على السلم والأمن الوطني والقومي، باتجاه تعزيز المزيد من التعاون والتنسيق وصولاً لاتحاد عربي، تلعب فيه مؤسسات المجتمع المدني دوراً شريكاً، على صعيد تمكين المرأة وإقرار حقوقها وحقوق المجاميع الثقافية المعروفة باسم الأقليات والمساهمة في أعمال الإغاثة للاجئين والنازحين ودعم الجهود في مجالات التعليم والتدريب والصحة وتمكين الفقراء وذوي الدخل المحدود وذوي الاحتياجات الخاصة، وخلق فرص عمل للشباب والعمل على محو الأمية وغيرها من الأنشطة والبرامج التي تسهم في نهوض المجتمعات ورفعة وترقية أفرادها، وهو ما جاء على ذكره أمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي.
وإذا كان مثل هذا التطوّر قد حصل على صعيد التنظيم الإقليمي العربي الجامعة فإن من المفترض أن يتساوق معه تطوراً موازياً على صعيد كل بلد عربي، إذْ ما زالت بعض التحفظات قائمة وتنظر لمنظمات المجتمع المدني على نحو سلبي، بل وتعتبرها “اختراعاً مشبوهاً” لتنفيذ مآرب خارجية، خصوصاً وإن بعضها يتلقى تمويلاً أجنبياً، الأمر الذي يثير بعض الشكوك وعلامات الاستفهام، في حين إن هناك اتجاهاً آخر ينظر بعين التقديس لكل ما تقوم به منظمات المجتمع المدني، بغض النظر عن بعض النواقص والثغرات والعيوب التي تعاني بعضها منها.وبين التنديد والتأييد، فإن الرأي الثالث يأخذ بخصوصية مجتمعاتنا العربية دون عزل نفسه عن التطور الدولي في هذا الميدان، حيث يمكن للمجتمع المدني في إطار الدولة وحكم القانون أن يسهم بصورة فعّالة وإيجابية وحيوية، في دعم برامج التنمية والمشاركة فيها باتخاذ القرار وفي التنفيذ، وبالتعاون مع القطاع الخاص، وهو القطاع الذي لا غنى عنها للمشاركة في التنمية.
ويتطلّب ذلك من المجتمع المدني نفسه الحفاظ على استقلاليته ووضع مسافة واضحة بينه وبين العمل السياسي، وهي ذات المسافة التي ينبغي وضعها بين السلطة والمعارضة، وبين الموالاة والممانعة ، من خلال موقف مستقل وغير منحاز، الأمر الذي يعني أهمية وضرورة التعامل بمهنية وشفافية كاملة دون لبس أو غموض ، سواء بالدفاع عن مصالح الفئات التي يمثّلها أو من خلال الدفاع عن مصالح عموم المجتمع والدولة الوطنية.وبقدر ما يُفترض الإقرار للمجتمع المدني بحق العمل القانوني والشرعي ومزاولة أعماله بحرية وشفافية، فمن جانبه يقتضي تأكيد عدم لجوئه إلى العمل السري مهما كانت الظروف والأسباب، واتباع الوسائل السياسية والسلمية في الدفاع عن أهدافه ومطالبه، وعدم اللجوء إلى العنف أو تشجيعه أو تبرير استخدام السلاح من أية جماعات خارج القانون، وتحت أية مبررات أو مسوّغات.
وبهذا المعنى لا بدّ من التزام آليات تقود إلى تعزيز مرجعية الدولة بوصفها المرجعية العليا، التي لا تضاهيها أية مرجعية أخرى دينية أو طائفية أو سياسية أو حزبية أو إثنية أو عشائرية أو مناطقية، وبالدولة وعبر حكم القانون ، يمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدني باعتبارها منظمات طوعية وتطوّعية واختيارية وسلمية الدور المطلوب منها والمنوط بها، فهي لا تطمح بأي شكل من الأشكال الوصول إلى السلطة، ولا تسعى لتكون جزء من كيان سياسي أو ديني، بل هي منظمات مهنية يتم الانتساب إليها أو الخروج منها بإرادة المنتسبين دون أي إكراه أو إلزام، وتعمد الأساليب الديمقراطية داخل هيئاتها وبين هذه الهيئات والأعضاء، وتلزم نفسها بإجراء انتخابات نزيهة وبإشراف جهات قانونية معتمدة لتداولية الإدارة.
وفقاً لهذه الرؤية نظر العالم إلى منظمات المجتمع المدني بعيداً عن التوقير أو التحقير، لأن الشراكة المجتمعية تتطلّب أجهزة للرقابة والرصد بحيث يتحوّل المجتمع المدني من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح، لمشاريع القـوانين والأنظمة، إذْ لا يمكن تقدّم أي مجتمع وأية دولة دون العلاقة العضوية المتــــبادلة والمتوافقة بين قطاعات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وأكدت أحداث حركة الاحتجاج التي شهدتها العديد من الدول العربية منذ العام 2011 وسميّت بالربيع العربي بغض النظر عن الفوضى التي أعقبتها: أن شحّ الحريات من جهة وعدم إشراك المجتمع المدني، ساهما في تغذية نزعات التطرّف الديني والتعصب المذهبي، اللذان قادا إلى أعمال الإرهاب والعنف، وهو ما حاولت وتحاول القوى الدولية والإقليمية استثماره لأهدافها الخاصة، بما في ذلك توظيف بعض المنظمات أو العاملين فيها لخدمة الأجندات الخارجية.
ولذلك فإن العقد العربي لمنظمات المجتمع المدني ستكون له دلالات مهمة من حيث الاعتراف القانوني بدور هذه المنظمات والحاجة الماسة إليه للمشاركة في عملية التنمية وفي اتخاذ القرارات وتنفيذها، وحتى سيكون ذلك عامل تعزيز للسلم الأهلي والمجتمعي الذي يوفر الأرضية المناسبة للفرد والمجتمع، في مواجهة التطرف والتعصب والغلو.
مقالات اخرى للكاتب