ما يميز ربابنة الورق إنهم الأكثر شهرة في البحار الزئبقية الملوثة بشطحات العقول المعطوبة. يستبدلون جلودهم من وقت لآخر، ويتلونون بألوان وجوه أصحاب القرارات المنحازة. ولهم قواسم مشتركة تجمعهم مع قراصنة الفرص الفوضوية الرخيصة.
لم يبحروا منذ تخرجهم بزورق صغير، ولم يعمل بعضهم مع رجال البحر الشجعان إلا لفترات محدودة، وبدرجات متدنية. لكنهم الأكثر استحواذاً على المواقع القيادية، والأكثر تشدقاً بالمواقف السوبرمانية، والأكثر تكبراً وتبطراً على الذين كانوا متفوقين عليهم في الدراسات الأكاديمية وفي المهارات الميدانية، حتى شطحت بهم الظنون، وتصوروا أنهم أصبحوا سادة على الأكفأ منهم في العلوم البحرية والفنون المينائية. فكانوا كأسماك القرش الضارية، التي نخرت سفننا المعطلة، وأغرقتها في مستنقعات إداراتهم السيئة.
عرفناهم منذ زمن بمعاولهم التي نسفوا بها هياكل التدرج الوظيفي، وكيف انقلبت على أيديهم الموازين، وتغيرت المفاهيم، وتبدلت المقاييس، وتزعزعت الثوابت، فتسيد الأدنى على الأعلى، والأصغر على الأكبر، والأغبى على الأمهر. حشروا المناصب العليا في حقائبهم، وهكذا وقعنا في قبضة فئات مرتبطة مع بعضها البعض بعلاقات نفعية، وما أكثر الشواهد والأدلة الدامغة على تفشي هذه الظاهرة، فكانوا هم السبب الرئيس في تخلفنا البحري، وفي انكماش سواحلنا، وفي تدهور أنشطتنا الملاحية. لأنهم لم يكونوا في يوم من الأيام طرفاً وطنياً فاعلاً في أي مشروع تطويري أو نهضوي أو تصحيحي، ولم يتقدموا بأي دراسة تحليلية أو تشغيلية تعود علينا بالنفع والفائدة، بل لم يتقدموا بأي ورقة عمل تمنحنا بريق أمل. لو تصفحنا سجلاتهم المصخمة لاكتشفنا إنهم جاءوا ثم رحلوا، من دون أن يتركوا وراءهم أي أثر إيجابي، باستثناء تهافتهم العجيب ورغباتهم المحمومة نحو تحقيق المكاسب النفعية غير المشروعة.
من هنا كان لزاما عليَّ أن أقدم للأجيال القادمة خلاصة تجربتي المتواضعة لعلها تنير لهم الطريق، وتفتح أمامهم آفاق العمل البحري الصحيح. فقد كنت أول من فكر بكتابة مسودة قانون الموانئ لسنة 1995، وأول من فكر بكتابة تعليمات الموانئ والمرافئ لسنة 1998، وأول من كتب الدليل التنظيمي لميناء خور الزبير، وكانت لي إسهاماتي الفاعلة في كتابة قانون السلطة البحرية، وقانون الغرفة الملاحية، وتعديل مواد قانون الخدمة البحرية المدنية، وأول من أوصيت بضرورة قيام المدراء (البحريون) برحلات التعايش الميداني من أجل الوقوف على احتياجات السفن وطواقمها، ومن أجل التعرف عن كثب على متغيرات ممراتنا الملاحية واحتياجاتها المتشعبة، وكان لزاما عليَّ أن أوزع دوامي الأسبوعي بين البحر واليابسة، بمعدل أربعة أيام في وحدة السيطرة البحرية، وثلاثة أيام اقضيها برفقة المرشدين البحريين المكلفين بإرشاد السفن والناقلات، فساعدتني خدمتي الطويلة على إصدار سلسلة من الكتب والمؤلفات، التي تزينت بها واجهات مكتبة الإسكندرية في مصر، وكانت لها الفوائد الجمة لطلبة الماجستير والدكتوراه في عموم الجامعات العراقية، ناهيك عن تحولها إلى مناهج دراسية لدورات المرشدين البحريين وربابنة المرافئ. أما الذين تحصنوا بألقابهم المزيفة، فإن حضروا لا يُعدون، وإن غابوا لا يُفتَقدون، ولن يذكرهم أحد بعد الآن، لكنهم وللأسف الشديد كانوا نقطة سوداء في خطوات مسيرتنا المتعثرة. والحديث ذو شجون.
مقالات اخرى للكاتب