لن أنسى ما حييت ذلك الموقف الذي لخصه ذلك الرجل العراقي الأصيل في الشهر الثاني من عام 2003 , موقف على بساطته وقلة كلماته لخص أساسيات العراقي و منطلقاته. كنت و واقفا في احد محلات بيع الأدوات الاحتياطية للتلفزيونات ابحث عن قطعة غيار لجهازي العاطل وكان هناك نقاش يديره احد الجالسين وكان من المتحمسين للغزو وأراد إشراكي بالنقاش فرددت عليه بعبارات وطنيه راقصة للغزو مهما كانت الظروف ولم اكن ارغب بالاستطراد , وإثناء ذلك دخل في المحل رجل بملابسه العراقية وايشماغ وعقال يسال عن قطعة غيار لتلفزيونه المعطوب ولم يمهله صاحبنا ونظر إلي صاحبنا وقال لنحتكم لحجينا الذي دخل وسأله: حجي شتكول خلي يجون الأمريكان ويخلصونا؟ نظر إليه منزعجا ومندهشا وقال: ليش ابني ليشم مو احنه ناس عدنه عرض ونخاف عليه!!!! وسرعان ما غير صاحبنا لهجته وقال ضاحكا ضحكة صفراء : اتشاقى وباك حجي. لكن ألحجي لم يعره اهتماما واخذ حاجته التي جاء من اجلها وخرج وخرجت بعده كل في طريقه.
طل علينا السيد الأديب مؤخرا في حفل تأبين المرحوم السيد محمد باقر الحكيم ليلقي كلمة نيابة عن السيد نوري المالكي وأصالة عن نفسه وتطرق باللوم على من يشعر بالحنين إلى النظام السابق وهو بالتأكيد لا يعني رجالات النظام السابق او المستفيدين منه بل قصد إن هناك تزايد ملحوظ بالتعبير من أفراد الشعب لرفض الواقع الخرب ومقارنته بما كان في عهد النظام السابق.
عانى العراقيون في عهد النظام السابق من ويلات الحروب وقمع الأجهزة الامنيه الشرس وعانوا من الجوع والحرمان في فترة الحصار وأكلوا العفن وشربوا الشاي المغشوش بدون سكر وكانت معاشاتهم قليلة جدا لا تسد رمق أسبوع ولبسوا ثياب البالات وانتعش عمل الاسكافي كرقاع أحذية يعيد ترقيعها كل مرة وبدت الحالة لا تطاق في جميع النواحي. تحسنت الأوضاع نسبيا بعد اتفاق النفط مقابل الغذاء ولكن أوقع النظام البلد في ركود اقتصادي نتيجة عدم إدراكه لانعكاسات تقلب سعر العملة وخسر العديد مدخراتهم وأقفلت المعامل الخاصة وأصاب التجارة والزراعة جانب كبير منها.كل ذلك حدث ولكن كان هناك أمل لأدراك الناس إن سببا خارجيا بدرجة اكبر إضافة إلى العامل الداخلي بدرجة اقل وراء ما يعانون وكان الهم مشتركا لا تختلف منطقة عن أخرى. ومع التحسن البطيء الذي بدء يدب بالحياة العراقية والذي بالكاد يشعر به الفرد العراقي لشدة بطئه , كان الأمل يتجدد بتحسن حقيقي مع استتباب الحالة الأمنية التي استطاع النظام أن يفرضها بدون هوادة رغم وجود حالات تسليب تحدث على طرق خارجية ولكنها كانت حوادث فردية وعشوائية.
في الوقت الذي كان العراقيون ينتظرون انتهاء حالة الحصار الاقتصادي لينطلقوا من جديد في حياة عادية. جاءت التهديدات الأمريكية بغزو العراق وانقسم العراقيون بمرحب وأخر رافض وأخر لا يعرف ماذا يفعل ونشط الطابور الخامس ببث الدعايات تمهيدا للترحيب بالاحتلال ولسنا هنا بصدد تعداد أنواع هذه الدعاية التي سلبت إرادة المقاومة من قسم كبير من الشعب بمقابل دعاية حكوميه هزيلة لا تملك من المقبولية شيئا يذكر ومعتمده على أساليب قديمه من الأطروحات سأم الناس منها.
وقع الاحتلال وكشف لنا مقدار الاهتراء الذي أصاب المؤسسة العسكرية ومقدار الخداع الذي صاحب الحملة الاعلاميه للغزو وأهدافه.
عشر سنوات مرت على الشعب العراقي بقسوتها عاش فيها العراقيون وسط الخوف والتفجير والاغتيال والاعتقال والتعذيب والتشريد والتهجير وفقدان الاحبه وعدم الاطمئنان على سلامتهم وبدء العراقي يشكر الله على سلامته يوميا واستحدثت عملية انتخابيه وذهب الناس إلى الانتخابات عسى ولعل وتكررت الانتخابات ولكن دون جدوى وسط عمليات فساد إداري وسرقات تزكم الأنوف ومحسوبية وفقدان للخدمات وتردي ما كان موجود منها . لم يتغير شيئا عدا تغيير سلم رواتب موظفي الدولة وأصبحت تكاليف الحياة صعبة جدا على بقية أفراد الشعب البروليتاريا وأصحاب المصالح الخاصة وصار الناس يشعرون بثقل المعيشة وارتفاع تكاليفها ووسط كل هذا لا تبدو السلطة الحاكمة مكترثة لما يجري إن لم تكن مشجعه و محرضه على كل ذلك.
أصبح العراقي مهددا في أمنه الشخصي وامن عائلته ومنطقته وأصبح لا يعلم من أين تأتيه البلوى , ولا يستثنى من هذا الشعور أحدا مهما كانت طائفته او عرقه ونتيجة لذلك شهد العراق اكبر موجة نزوح في تاريخه وحتى المسئولين العراقيين تجدهم رحلوا عوائلهم خارج العراق, فليس هناك أمان في العراق وقد تهدأ الحالة لبعض الوقت لكن سرعان ما تعاد عمليات القتل والتفجير والاغتيالات السياسية والطائفية ولكن الأهم من كل هذا هو الشعور العام بعدم وجود الأمل وفقدان الثقة بالساسة بصورة عامة والسلطة الحاكمة بصورة خاصة.
لذا إزاء كل هذا وبما إن العراقيون بشر لهم عقول ولهم ذاكرة والإنسان بطبيعته يقارن ويستعيد لحظات سعادته وتعاسته ويقيم الأمور بحياديه لان غالبية الشعب غير مؤدلج أي ليس له نظرة مسبقة وإزاء كل ما تقدم يكون التساؤل لماذا الحنين إلى النظام السابق لا معنى له إلا بمقدار لماذا لا يسكت العراقيون ويرضون بالواقع؟ وهذا كلام الاديب في منسبة سابقه لكنه استعاض عن العراقيين بكلمة البعض. نعم نحن نلاحظ في الشارع وفي العمل ان الناس لها حنين إلى ذلك الزمن ليس حبا فيه بقدر ما يفتقدون من ميزاته من هيبة حقيقية للدولة وامن اجتماعي حقيقي وخدمات تتناسب مع قلة الموارد وكان هناك نوعان من الموظفين , من هو مخلص بعمله إخلاص حقيقي رغم قلة عوائده وصنف أخر يعمل تحت الخوف إضافة إلى ما تختزنه الذاكرة من ان النظام السابق بنى وأنجز خدمات ومصانع وشبكة اتصالات وانجازات أخرى لكن دخوله في الحروب هو الذي جاء عليه و على البلد بالويلات وحمل العراقيين أكثر من استطاعتهم..
كانت العشيرة العراقية عندما تفقد شخصا ذو شان تبكيه النساء وعندما يطلب من النساء السكوت يجبن بنحيب مغنى: جيبوا خلفكم دا نشوفه وان كان مثله ما بكينه.
مقالات اخرى للكاتب