رجل الدين إنسان رائع في المعبد، والمسجد، والكنيسة.. تطفح على وجهه ابتسامة ساحرة حين يتحدث عن الرحمة والتسامح، المغفرة والرضى، الخير والمحبة، لم يملأ قلبي أحد بالسرور والطمأنينة مثلما يملؤه رجل دين يتحدث عن الله بوصفه محبة. وجوده ضروري للتخفيف عن آلامنا الوجودية، مثلما هو ضروري من أجل الأمل.
لكن رجال الدين خطرون في السياسة، خطرون عندما يستبدلون المنبر بكرسي القصر الجمهوري. ومصدر الخطر أنهم يخلطون الأمور بطريقة عجيبة، الكذب والتزوير والسرقة وتصفية الخصوم السياسيين تصبح أعمالا يمكن تبريرها بوصفها أعمال محبة تقربهم من الله. هذه الأعمال الخطرة بالمقياس الأرضي، ليست خطرة بمقاييس رجل الدين طالما أن فاعلها لم يكفر، بل يمكن تبريرها بالغايات النبيلة لفاعل الفعل. حتى وإن كانت ذنوبا، ستبقى ذنوب تافهة يمكن إسقاطها بالاستغفار والصلاة، ويمكن القضاء على المشاعر السلبية الناتجة عن مشاعر الذنب، بالحج إلى بيت الله، أو الاعتراف أما الكاهن، بعدها سيحل السلام على روح من اقترفها. ثلاثة خلفاء بعد الرسول تم اغتيالهم تحت صرخة الله وأكبر، لأسباب سياسية، دون أن يرف للقتلة رمش. التبريرات جاهزة والآيات المبررة يمكن استحضارها فورا. إنهم قادرون على قلب كل شيء رأسا على عقب دون أدنى شعور بالضيق أو الارتباك. رجال الدين حين يحكمون لا يقلقون من ارتكاب أي فعل مهما كان شنيعا، ليس لأنهم سيئون، بل لأن فضاء السياسة يمنحهم القدرة على ارتكاب الأعمال السيئة. فيسيئون بذلك إلى الدين قبل أن يسيئوا إلى أنفسهم، وإلى الشعب والوطن.
يرى رجل الدين السياسي أنه حامل لواء الفرقة الناجية الوحيدة، وكل من هو خارج فرقته سيجرفه الهلاك. هنا مكمن الخطر، أن تشعر أن الله معك مهما فعلت، حتى لو أخطأت، ستبرر: "قدرة الله أرادت أن أخطئ"
ثم أن الأرض ليست مكانا للحساب الختامي وليس القانون الأرضي عاصمهم، الأرض مهد الأخطاء فقط، تصفية الحسابات مكانها في السماء. لذا سيكون مباحا أن يفعل ما شئت هنا، وهناك سيحلها الحلال. لهذا تسمح الحكومة التي يحكمها رجال الدين، بهرب المسؤولين والوزراء الذي قتلوا وسرقوا وخرقوا قوانينها.
رجل الدين المسيس يعلق بسهولة أخطاءه على شماعة الشيطان دون أدنى شعور بالخجل، الأشرار والمتربصون كثيرون، حتى وإن لم يرهم أو يسمعهم، فهو يرى أن للشيطان أتباع ومتآمرون وجواسيس وأصابع في كل مكان، لا شغل لهم سوى نسج المؤامرات ضده، المرأة مثلا وسيلة شيطانية لإغواء المؤمنين، لذا فهي عورة، لكنها أيضا محط شهواته البشرية، لذا يجب إقصاؤها عن المشهد إلى أبعد مسافة ممكنة، أو تغليفها حتى لا يظهر منها شيء، حتى يأمن من شرور الشيطان الذي قد يتلبس فيها في أية لحظة.
أتباع الشيطان كثيرون، إنهم أكثر مما يحلم رجل الدين، وجودهم الافتراضي ضروري جدا لتبرير كل شيء، كل خطيئة، وكل فضيلة. يشرب كاس ماء ويتعوذ من الشيطان، يصلي ويتعوذ من الشيطان، يذبح خصمه السياسي وهو يبسمل ويتعوذ من الشيطان أيضا. هذه المرونة تمنحه قيمة مضافة لا تتاح للسياسي العادي، تجعله فوق الجميع، وتجعل وجوده قدرا إلهيا، ورسالة مكتوبة على جبينه وجبين الأمة بأسرها، رجل الدين السياسي كائن سماوي بالضرورة، هكذا يرى نفسه.
اسألوا صدام حسين، كيف أراد أن يتحول في آخر أيامه إلى كائن سماوي، يحتضن كتاب الله أينما حل، لكن اللعبة لم تنطل على أحد، لأنه لعبها متأخرا!!.
في رجل الدين السياسي شيء من صفات النبوة، وفيه شيء من الوحي، وشيء من الإلهام. سيشعر مع الوقت أنه مكلف بحماية السماء من شياطين الأرض. ولأن خطاب الله متاح له هو وحده، سيكون بإمكانه تكييفه كلما كان بحاجة إلى ذلك لتأدية واجبه الرسولي، هذا هو مشروعه، تعمير الجنة بالمؤمنين، أما الأرض فهي موطن الفساد والخراب، لذا لا داعي لمشاريع التنمية والطرق والتعليم والشوارع والمستشفيات والحدائق والساحات والكهرباء والماء النقي. الموت بكل وسائله المتاحة سيأخذنا كلنا إلى الجنة بلا شروط... حتى التفجيرات اليومية مفيدة، لأنها ستنقذ أرواحنا من عذاب الأرض.
كل رجل دين دكتاتور نائم، يستيقظ ما إن يقترب من السياسة، دكتاتور لأنه لا يقبل بالهزيمة، فهي هزيمة لصوت الرب الذي حل به، ولا يقبل بالرأي الآخر لأنه ضد كلام الرب المكلف هو بصيانته.
مقالات اخرى للكاتب