نورة الرابع عشر من تموز 1958, كانت اعظم ردة فعل حضارية في تاريخ العراق والمنطقة, وعبد الكريم قاسم كان رمزها وقد يكون آخر رموزها, في ذلك الصباح التموزي ارتج بركان الحضارات العراقية فانفجرت من داخله ثورة وطنية وقائد شعب طال انتظاره, ولادة صبرَ عليها التاريخ لأكثر من (1400) عاماً, فأجهض قمرها الطفل وحوش الجاهلية واجلاف البداوة وشعوذات الأفتاء فاستقر خالداً في الذاكرة العراقية .
صباح الرابع عشر من تموز 58, اغتسل العراق من اوحال التطرف الطائفي والتعنصر القومي والتخلف القبلي, نهضة فجرت مكامن الوعي واستجابت لنداءات عقل حضارات ما قبل التاريخ الأسلامي, كانت البداية والطريق مختنقاً بحرائق الأيديولوجيات القومية والدينية والعالم كان نشيطاً في اكمال دورة الخراب الشامل للعراق والمنطقة, الوليد كان اعزلاً الا من اصالة ردة فعله وزخم جماهيري ممزق, ليثبت فقط, ان العراق وكما هو دائماً لازال حياً يحتفظ بخزينه الحضاري وفي صلبه ارادة الأغتسال من شعوذات التاريخ الكاذب.
ثورة الرابع عشر من تموز الوطنية, جاءت في زمنها تماماً, انها مشروع وطني عراقي عابر التوقيتات, تليق به كل الأزمنة ويليق بها, من يعتقد غير ذلك او كأنها جاءت قبل زمنها (ضرورتها), ما هو الا مبررٌ لأغتيالها او محاولة لتغطية عورات من ساهموا في خذلانها وضياعها, من يدمن تعاطي المصطلحات والنصوص المستوردة, عليه الا يلوث نجمة الحقيقة على غرة التاريخ العراقي, المؤدلجين وحدهم لا ازمنة لهم .
من يعرف شخصية عبد الكريم قاسم, بساطته كرمه شجاعته كفاءته نزاهته وذكائه غير المتكلف, وحده يستطيع رؤية الوجه الآخر للحقيقة العراقية, ومقتدراً على ترجمة الأنسجام الرصين بين شخصية الزعيم ومرحلته, الأغتيالات الغادرة لا تلغي موضوعية وضرورة الأنتفاضات والثورات, فالخسوف لا يعني ان القمر مر في غير موعده .
"كل القلوب تهواك" الزعيم الشهيد الخالد لا يملك حزباً او عشيرة وطائفة ومذهباً محدداً, الوطنية العراقية وحدها تشكل نسيج شخصيته, ولا غرابة, ان المواطنين وبعفوية صادقة, لا زالوا يعرضون صوره التذكارية في اسواق المدن كأنقى رمز لهم, وهناك استجابة شعبية لشرائها بغية اقتنائها او اهدائها لأعزاء لهم, بذات العفوية الوطنية, انجز الجمهور وبأمكانياته الذاتية نصباً تذكارياً رائعاً في شارع الرشيد وفي ذات المكان الذي حاول الأراذل اغتياله فيه, قامة تعطر طلتها ذاكرة العابرين .
الكثير من الشخصيات التاريخية, استهلك الزمن معظم بريقها واستبقى منها صور وحكايات غطى عليها عنف الأحداث ومتغيرات المراحل, الشهيد الزعيم لازال يتوهج في الذاخرة العراقية, حتى الجيل الثالث بعد ثورة 14 تموز 58 ومع ان الواقع مكتضاً بالحثالات المسيئة للذائقة العراقية, لكنهم وبمناسبات عفوية يستذكرون الزعيم الشهيد نموذجاً للوطنية والنزاهة والكفاءة والشجاعة ويضعون وجوه مرحلة الفساد تحت سلم المقارنة, حتى محاولات بعض الذين خذلوه ويحتفلون بذكرى ثورته مديحا مغلفاً بالشتيمة والأساءة لشخصيته, انهم (اخوة يوسف), حتى اصبحوا في نظر الناس, متروكات على قارعة المنطق, هل يذكر التاريخ البشري, ان رجلاً كان قائد ثورة ورئيس دولة غادر الحياة لا يملك بيتاً ولا عائلة سوى قلباً اهداه لكادحي العراق .
ونحن نستذكر ثورة 14 / تموز الخالدة, علينا ان نحتقر مرحلتنا بدلاليها ولصوصها وقواديها وخونتها ورموز فساد حكومتها, ثم نهتف بسقوطنا, جيل مسكون بتقديس اوهامه وجهله وخرافاته وبكائياته وعبوديته لرموز لا قدسية ولا رمزية لها, رموز تدعي ولا تحسن عمل الخير, محترفين الخديعة والخذلان وطبخات الأستغفال وشعب لا يعرف, ان الشعوب لا تقدس الا اوطانها وان الأرض وحدها مقدس ما عليها .
الأمريكان مثلاً يقدسون امريكا ويحترمون مشاريعها ويدعمون مصالحا, لكنهم يُعلمون شعوب العالم كيف تخون اوطانها, وتهيء من حثالاتها فيالق من السفلة ليواصلوا بهم تشكيل حكومات الخيانات القادمة, ماذا يريد العالم المتأمرك وشياطين الجوار والداخل من هذا الوطن الأجمل, الا يخجل التاريخ من نفسه .
مقالات اخرى للكاتب