ماذا تريد روسيا مما تبقى من سوريا؟
الشيء الثابت أن أي رهان على تعاون من موسكو لتطبيق «جنيف1»، حتى وفق تفسير فلاديمير بوتين و«قوميسار» دبلوماسيته الحديدية سيرغي لافروف، بات ضربًا من السذاجة. كذلك، غدا واضحًا أن موسكو تجد الآن المناخ العام في المنطقة مناسبًا جدًا لعرض عضلاتها، إن لم يكن يستدعي ذلك. ذلك أن فرصة وجود رئيس أميركي مثل باراك أوباما في البيت الأبيض فرصة لا تتكرّر دائمًا. ثم إن ربط أوباما تركته السياسية بالتحالف مع إيران يعني أنه ما لم يبلوِر خصومه الجمهوريون استراتيجية شرق أوسطية بديلة وذات معنى، فإن هامش مناورة واشنطن في المنطقة سيظل محدودًا ومحصورًا برد الفعل، بل رد الفعل المتأخر عن الأحداث.
ثمة من يقول إن حرص أوباما على الاتفاق النووي مع إيران أقرب ما يكون إلى سياسة «عصا وجزرة»، تراهن على ترجيح كفة «الإصلاحيين» البراغماتيين في طهران على غلاة الملالي والحرس الثوري، وتنتهي بمقايضة سلاح إيران النووي بنفوذ إقليمي لها على حساب جيرانها. وهذا احتمال وارد بدليل «اقتناع» عدد لا بأس به من كبار مناصري إسرائيل في مجلسي الكونغرس الأميركي، و«سكوت الرضا» من جانب المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي قيل إنها رفضت غير مرة رغبة بنيامين نتنياهو بضرب إيران.
في أي حال انتصار «الإصلاحيين» البراغماتيين، وهذا احتمال وارد – على الأقل بالنسبة للأميركيين – أزعم أنه لا بد أن يكون عند الروس «ترتيب ما» يحفظ لهم بعض النفوذ عند تخوم روسيا الجنوبية وشرق المتوسط. فبوتين سياسي واستخباراتي نضجت هويته السياسية في عز الحرب الباردة وصراع الشرق الغرب، ثم بعد ذلك في حقبة استهانة الغرب المنتصر بالاتحاد السوفياتي المهزوم ثم المُفتَّت. ولئن كانت شعارات «الاشتراكية» و«الإنسانية» و«حق تقرير المصير» التي أمطرتنا بها افتتاحيات «البرافدا» في الأيام الخوالي ما عادت تنطلي اليوم إلا على بلهاء «اليسار الطفولي»، ولا يود تصديقها والاتجار بها سوى «عروبيي أقبية الاستخبارات»، فإن التصرفات «القيصرية» لروسيا ما زالت حيّة ترزق.. وتسعى.
لقد كان اللاموقف الأميركي من ثورة سوريا الضوء الأخضر الذي طمأن بوتين إلى أنه حرٌ في التصرف كما يشاء في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا. واليوم، تكمل عقارب الساعة دورة كاملة إلى سوريا. ومجددًا، تؤكد واشنطن من جديد أن لا موقف لها خارج نطاق طمأنة إيران وإسرائيل، ولو كان الثمن إغضاب الأتراك والعرب.
روسيا القيصرية لن تنسى الشرق الأدنى، حيث كان لها في المنطقة قناصلها وأديرتها و«سميناراتها» ومدارسها «المسكوبية» (نسبة إلى موسكو). ومثلما كانت فرنسا تعتبر نفسها حامية الكاثوليك والموارنة، وكانت بريطانيا ثم الولايات المتحدة، أيضًا، تهتمان بنشر المؤسسات البروتستانتية، رأت روسيا نفسها مرجعية الأرثوذكس.
اليوم، روسيا عائدة إلى عصرها «القيصري» لأن أيام المتاجرة بالاشتراكية ولّت. كذلك تشعر روسيا أنها ليست مضطرة لمسايرة أحد، ولا أخذ إذن من أحد من أجل التصدي للإسلام السياسي والمقاتل، الذي قاتلته لقرون خلت على امتداد أراضيها وحدودها الطويلة، من البلقان إلى القوقاز إلى آسيا الوسطى!
ثم إن هناك بُعدًا آخر، يتعلق بالتحالف التكتيكي مع إيران. فقبل بضعة أشهر راجت شائعة عن أن الإيرانيين أبلغوا أحد رجال النظام السوري إبان زيارة قام بها إلى طهران أنهم «دفعوا الكثير وما زالوا يدفعون» من أجل الدفاع عن نظام بشار الأسد. ولذا فهم يريدون «ضمانات» على شكل أراضٍ اختاروها، وأبلغوا الزائر عنها، مقابل ما دفعوه.. وقيل يومذاك إنهم قدّروا المبلغ بنحو 26 مليار دولار أميركي. وبعد العودة أوصل رجل النظام رسالة الإيرانيين للأسد، ووفق الشائعة نفسها استدعى الأخير شخصيات مسيحية وأعلمها بمضمون الرسالة وأفهمها بما معناه أن الإيرانيين «يريدون السيطرة على البلد»، وأنه لا يستطيع حماية المسيحيين، وبالتالي، ليس لهم إلا الاتصال بالروس.
الشائعة هذه نشرت في بعض وسائل الإعلام، لكنها كمعظم الشائعات التي ليس من مصلحة لأي طرف تبنّيها.. ظهرت وسرعان ما اختفت. مع هذا، الطريقة التي تدير فيها إيران الآن المعارك العسكرية – عبر حرسها الثوري، بميليشياته اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها – في الزبداني والقلمون وحوران والشمال السوري، وكذلك مفاوضات الإجلاء والإجلاء المعاكس، تؤكد أنها باتت صاحبة القرار والحل والربط.
نعم، إيران هي مَن يحكم معظم «سوريا المفيدة» ميدانيًا وسياديًا الآن، أما النظام فما تبقّى منه إلا وجهه البروتوكولي. وهذا يعني أن «سوريا ما قبل مارس (آذار) 2011» انتهت بصرف النظر عن مصير شخص بشار الأسد وهيكل نظامه. وهو يعني أيضًا أنه كانت الظروف قد تُجبر تركيا قريبًا على منع قيام كيان كردي مستقل يمتد من حدود محافظة الحسكة السورية مع العراق إلى حدود قضاء عفرين التابع لمحافظة حلب مع لواء الإسكندرونة (هاتاي) التركي، فإن روسيا قد لا ترتاح لفكرة التخلي إيران عن بقايا نفوذها في شرق المتوسط، وخصوصًا، إذا توثّقت علاقات «إصلاحيي» طهران بواشنطن.
في هذه الأثناء، «تكتشف» واشنطن أنها بعد انشغالها بتصوّر «شرق أوسط جديد» صارت على أبواب «الشرق الأوسط القديم». وحقًا، كان «مضحكًا مبكيًا» كلام الجنرال فينسنت ستيوارت، رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأميركية، عندما طرح خلال مؤتمر في واشنطن «احتمال تفتّت العراق وسوريا نهائيًا بفعل الحرب والصراعات المذهبية والطائفية». وبعد تشكيكه بعودة الأكراد إلى عراق مركزي، رأى إمكانية تقسيم سوريا إلى كيانين أو ثلاثة. وفي المؤتمر ذاته، ذهب جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) أبعد، إذ قال: «إن العراقيين والسوريين يعرّفون أنفسهم اليوم أكثر فأكثر على أساس القبيلة والدين والمذهب وليس الدولة التي ينتمون إليها»، مضيفًا: «أعتقد أن الشرق الأوسط سيشهد تغيرًا خلال عقد أو اثنين سيغيّر تكوينه عما هو عليه اليوم».
«اكتشافات» مدهشة حقًا، مع أنها ما عادت تفاجئ راصدي سياسة واشنطن
مقالات اخرى للكاتب