الأجساد الطاهرة لآل بيت رسول الله مقطوعة الرؤوس .. مضرّجة بالدماء على رمضاء كربلاء كأنها الأقمار المتساقطة من السماء على ظلام الأرض .. ساكنة لا حراك فيها .. يجفُّ النجيع على أجداثها الصلبة .. تمرُّ عليها عواصف الليل فتهيل عليها الرمال الحمراء .. لاشيءَ إلا امرأة ً موشحة بعباءتها السوداء، تطوف بالهيبة والوقار والسكينة ، كأنها البركان الذي يكمن ثورته ويبدي هدوؤه أمام الطبيعة الخرساء سائرا .. تفتش عن الوجوه المسافرة مع رؤوسها المحمولة على الرماح نحو الشام .. لا ترى غير الأجسام التي تساوت في الشبه من الإدماء والظلماء !!! .. أين أخواها .. أين أبناء أخويها .. أين أولادها .. أين الرجال الذين كانوا معهم في الطريق الطويل ؟!.. أين الناصرون الذين كانوا آلافا أمَّهم ابن عمها مسلم بن عقيل في الكوفة قبيل المأساة بأيام ؟! .. أين تطايرت الرسائل التي حملها المبايعون من أهل الكوفة ؟!.. أين الحسين ؟!.. أين قمر الهاشميين أبو الفضل العباس .. أين شبيه جدها رسول الله (ص) علي الأكبر ؟! .. أين القاسم بن الحسن ؟!.. أين الطفل الرضيع عبد الله بن الحسين ؟!.. أين الأنصار .. أين الأتباع .. أين المستيقظة مرؤتهم ؟! .. أين رؤوسهم ؟! .. أين وجوههم ؟! .. أينهم بين الظلام الدامس ؟! .. كيف الوصول إلى جسد أخ ٍ ضيّعت الرماح والرمال والسيوف والحراب والدماء ملامح أشلائه ؟! .. لاشيء يوصل إلى شيء !!!
تقف زينبُ أختُ الحسين(ع)على تلتها الزينبية بكربلاء لتلقي نظرتها الأخيرة قبيل الرحيل ، دون أن تذرف دمعة واحدة على بانوراما الطف الحزينة .. دون أن تقلب أيَّ جسدٍ من تلكم الأجساد ، لأنها لا تفقه لغة الحوار مع كواكبَ أفِلتْ ملامِحُها ، فتوجِّهُ حوارَها إلى الله .. مشرئبة نحو السماء .. مكلمة ً ربَّها بكبرياء الأبطال وبخشوع الأنبياء :
((إنْ كان هذا لا يُرضيك ، فخذ حتى ترضى!)) ...
هنا ؛ تمطرُ السماواتُ السبعُ ياقوتَ عيونِها .. تذرفُ الملائكة دموعَها .. يبكي يحيى المعمدان ، عندما يرى رأساً يصرعه السيفُ الأمويُّ فينتصر عليه .. رأساً يحمله الرمحُ ، كأنه رمحٌ يحمله رأس الخلود .. يبكي اليسوعُ المقدسُ عيسى بن مريم العذراء ، عندما يرى أنَّ هنالك مأساة ً أكبر من مأساته على الأرض !!!؟
الليلة المأساة ؛ ليلة الحادي عشر من محرم الحرام عام إحدى وستين للهجرة النبوية الخالدة يخلدُ الحُسَيْنُ على التراب فتورقُ القرونُ حقباً من النور تنتشرُ في ظلام المأساة الكبرى .. تمتدُ من كربــــلاءَ إلى الشام .. مهاجرة بالرؤوس المحمدية ، مبقية ً زينَ العابدينَ عليلاً في فراش الحُسَيْن، وأختهُ الحوراء تحرسُ البيتَ الهاشمي المطهر.. تماماً؛ كما كان عليُّ (ع) ليلة الهجرة المباركة ، لكنَّ الفارقَ ؛ إنَّ النبيَّ وأصحابَهُ ساروا مهاجرين جسداً وروحا ، بينما آلُ بيته ساروا سبايا .. رؤوساً تحملها الرماح.. أرواحها تتلوا آياتِ القرآن الكريم :
((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) صدق الله العلي العظيم