مَن عرف كوردستان وشعبها أدرك قيمها العليا واكتشف إن في سلوكيات أهاليها ما ترفع لهم القبعات كما يقولون، ولعل ما حدث بعد انتفاضة آذار 1991م، وتحديدا بعد سنوات من مجازر الأنفال وحلبجة، أو بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003م، اثبت للعالم اجمع عمق وسمو القيم الرفيعة التي يتصف بها شعب كوردستان وقيادته، حينما احتضن مئات الآلاف من الجند الذين سقطوا بأسر الثوار والشعب، وكيف تم التعامل معهم بأعلى قيم الإنسانية دونما انتقام أو كراهية، وكذا كان الحال مع مرتزقة النظام وعملائه ممن كانوا يسمون بالجحافل الخفيفة التي تم إعفاؤها والتسامح معها، في واحدة من ارقي آيات المسامحة والتعايش التي أدت إلى نهوض كوردستان وتطورها الاجتماعي والسياسي والحضاري.
لقد واجه الإقليم منذ استقلاله الذاتي عن حكومة بغداد عام 1991م وحتى يومنا هذا، الكثير من المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية في خضم حصار مزدوج مضروب حوله من قبل الأمم المتحدة والنظام العراقي في حينها طيلة عقد التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، بما في ذلك تلك الحرب القاسية التي فرضتها أجندات أجنبية أنفقت مليارات الدولارات من اجل تحطيم كوردستان وتجربتها، إلا إن شعب كوردستان وفعالياته السياسية على اختلاف مشاربها ورؤاها انتصرت للوحدة والتسامح والحوار من اجل مصالح البلاد العليا ونجحت في حل أكثر المشاكل تعقيدا، ونهضت كوردستان وغدت ملاذا وواحة للسلم والأمن والعمل والأعمار، فاحتضنت مئات الآلاف من العراقيين الهاربين من جحيم الإرهاب والبطالة والخوف، وغدت كيانا فرض احترامه على الجميع من خلال قيمه النبيلة العليا.
وفي الحراك السياسي الأخير وما رافقه من عمليات عنفية أثناء التظاهر في بعض البلدات شرق الوطن وتداعياته السياسية، تصور البعض من السذج سياسيا والمثيرين للسخرية إن شعب كوردستان سيتخلى عن قيمه الخلاقة، وان مجرد خلاف سياسي هنا أو هناك سيدمر الإقليم وتجربته، وقد ذهب العديد من أولئك المرتزقة الفاشلين سواء في الداخل أو خارج الإقليم إلى الإيحاء بانهيار الإقليم أو قيام حرب أهلية، واشتغلت أبواق الدعاية لكل من عادى ويعادي الكورد وكوردستان ومشروعهم النهضوي، في شن حملة رخيصة لتمزيق وحدة الصف الكوردستاني باستخدامهم لأقلام وأصوات داخلية، ما هي إلا صدى لذلك التاريخ العفن لجوقة الجحوش سيئة الصيت التي اندثرت مع نهوض كوردستان وشعبها وأصبحت صفحة سوداء مزقها الشعب وأرسلها إلى الماضي.
إن قيم كوردستان النبيلة الناتجة من تراكم حضاري أخلاقي ونضالي عبر تاريخ طويل من الصمود والمقاومة للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، تعكس اليوم وفي ظروف غاية في التعقيد حيث تتعرض البلاد إلى حرب ضروس تستهدف وجودها شعبا وأرضا، تعكس أصالة هذا الشعب ومقدرته على الوحدة والتعايش والتسامح والانتصار الأكيد على العدو الذي يستهدف ما أنجزه الشعب عبر تاريخه، حيث ستبقى هذه القيم المصد الأقوى والسور الأعلى لحماية كوردستان وشعبها ومشروعها النهضوي.
مقالات اخرى للكاتب