ترجمة و تحرير: العراق تايمز (الجزء الاول)
في ظل اهتمام البعض بتسجيل اهم الخسائر المادية التي تكبدها العراق ابان الاحتلال الانجلو امريكي للعراق قبل عشر سنوات، قام الكاتب والروائي الفنزويلي والخبير في شؤون المكتبات "فيرناندو باييث" بنشر بحثه حول الخبايا التي تكمن وراء التدمير الثقافي الذي مورس على العراق في فترة الحرب، وهو البحث الذي اشتغل عليه طويلا وتكبد من أجله عناء السفر الى بغداد رغم الظروف الأمنية الحرجة آنذاك.
في هذا البحث الذي أدرجه في كتاب أسماه "الهجمة الثقافية على العراق ولغز اتلاف الكتب من مكتبة بغداد" استطاع فرناندو ان يقربنا من تفاصيل رحلته الى بغداد وما توصل اليه في بحثه المستفيض حول اللغز المحير وراء تدمير اكثر من مليون كتاب ووثيقة نفيسة التي كانت تعد كنزا من الكنوز الثقافة في بلاد الرافدين.
نترككم مع فصول الكتاب.
من أين سأبدأ قصتي؟ ربما كان الهاتف هو الاشارة الأولى أو ربما الأخيرة التي ستغير مجرى حياتي. في الأيام الأخيرة من شهر أبريل لسنة 2003 ،لم يتوقف الهاتف عن الرنين لساعات طويلة، لم اكن حينها على استعداد لأن اجيب، لقد كنت مشغولا جدا ولا أريد من احد ان يفسد على عزلتي...تلك الرنات المتكررة توحي بان شخصا ما يصر على ذلك اما بفاعل الياس وتجريب حظوظه الأخيرة أو بفاعل الغرور وعدم الاكثرات.
قررت أخيرا ان اجيب مجبرا لانني ما عدت اتحمل صوت الهاتف المزعج .
لقد كان الأمر كما تخيلت، كان شخصا يائسا جدا ومستاءا ينتظر بشغف متى ارفع السماعة و اطلق سراحة من دوامة الحيرة ،لقد كان جيبوفاني ماركيز صديق القديم ،انه محامي وخبير في الممتلكات الثقافية، وبالرغم من ان صوته كان بعيدا جدا وغير مفهوم لكنني علمت ان هناك خبرا سيئا في الأفق.
لقد عاد من اسبانيا بأنباء سيئة للغاية، مفادها انه تم تدمير مليون من الكتب والوثائق النفسية في لمكتبة الوطنية لبغداد "دار الكتب والوثائق" وقال لي وقد غلب على صوته طابع الحزن والائكتئاب أن هناك لجنة دولية ستذهب الى العراق من أجل التااكد من صحة هذا الخبر اللعين، وذلك بدعم من اليونيسكو والمركز العربي للدرسات، ومنظمات اخرى وجامعتين لاتينيتين رشحوني كخبير في هذا الشأن.
لقد ألح علي "جيوفاني" بالذهاب، وأنا كنت مرحبا جدا بالفكرة، لانها تعد فرصة لاختبار كل ما تعلمته طيلة سنوات في علم "البيبليوستيكا" وهو مصطلح يوناني يعني ظاهرة "تدمير المكتبات" في الواقع لقد كرست حياتي كاملة في دراسة هذه الشعبة.
في اوائل شهر ماي لسنة 2003، غادرت بلدي باتجاه باريس وبعدها الاردن، ومن عمان وصلت الى نقطة الحدود "الكرامة" بعد رحلة 600 كيلو متر على الطريق السيار الذي يسمونه" طريق الرعب" الى بغداد.
كانت رحلة سيئة للغاية، وكما توقعت لقد مرضت بسبب الحرارة المرتفعة، (الحرارة هناك تصل الى بعض الاحيان الى 50 اكثر من درجة مئوية) ، وبمجرد أن دخلت حجرة الفندق، خلدت للراحة بالرغم من انني عانيت اللي كله بدون آلة تبريد ولا ماء، ولكن المهم أنني قد تعافيت بسرعة لأنني كنت اعلم انه لدينا فقط القليل من الوقت، وينبغي اغتنام كل دقيقة، مما اجبرني أن اتذكر نصيحة رئيسي القديم - الذي كان كان في مرحلة شبابه يبيع الكتب والآناجيل من اجل اكمال دراسته – كان يقول لي ان الطريقة السهلة لايجاد شيئ تبحث عنه هو ان تقوم بالبحث عن شيئ آخر غيره وهذا بالفعل ما قمت به عندما عزمت الخروج للبدأ في البحث الذي قدمت من أجله الى بغداد حيث انه كان من المفترض أن أذهب الى سلطة الائتلاف المؤقتة لاستجواب الامريكيين على ما حدث، ولكنني غيرت مساري ورفضت هذا الخيار في تحد واضح، فضلت ان أذهب لألقي نظرة وحدي في مغامرة شخصية مني، بصراحة خطتي هذه كانت ابسط مما يمكن تخيلها، الذهاب وتسجيل ملاحظات، والاستماع إلى العمال العراقيين سواء اكانوا من أعداء او أنصار صدام حسين.
ان الحقائق التي وقفت عليها والاشياء التي اكتشفتها ورأيتها، كانت جديرة بالاهتمام، لكنها اصابتي بحزن عميق، وأرق طويل، صعب علي نسيانها، لان المكيدة التي نصبت لتدمير المكتبة جد ملتوية.
ما الذي حدث في المكتبة الوطنية لبغداد؟؟
كان هذا السؤال مني عادة ما يلقى تفسير يكون بالنسبة لي نقطة بداية جديدة للبحث.
لقد ولجت المكتبة التي كانت بعبارة عن بناية من ثلاث طوابق، اجمالي مساحتها 10.240 متر مربع، تتزينها شبابيك عربية في الوسط ،أقيمت سنة 1977.
المكتبة تقع في الرشيد، بالتواز مع وزارة للدفاع القديمة التي تم هدمت اثناء التفجيرات سنة 1991.
في الدرج المقابل كان هناك مجموعة من الجنود الامريكيين ،كان بينهم لاتينيين أيضا، كانوا يدخنون اعقاب السجائر بكسل، مع القيام ببعض المزحات السريعة. انهم لم يكلفوا انفسهم عناء النظر صوبي.
كانت واجهة المكتبة متضررة جدا بسبب النيران، التي احرقت كل الجدران بلهيبها تاركة بقعا سوداء كبيرة، وكسرت حتى النوافد نظرا لهول الحريق.
ملامح الحزن كانت تطبع الأجواء.
لقد كانت عقارب الساعة، تشير الى الحادية عشر وكان التاريخ هو العاشر من مايو 2003 ولجت مع مجموعتي للمكتبة لبدأ البحث، لقد كنا خمس أو ست أفراد بقيادة أحد المنسقين.
كان المدخل مضللا بنتوءات مزخرفة تحميه من حرارة الشمس، نتوءات كانت على جوانبها حروف عربية تعبر عن شيئ من الايمان أوعن اسم المكتبة، وكان معلق على بابها قفل ضخم الحجم، لقد رايت في الداخل عشرات العمال والخبراء الذين كانوا يشتغلون في المكان، لقد كان الوضع بمثابة كابوس، أجواء من الحرب فجة النمط، و خيوط ضوئية تسللت بتحفظ وغموض من النوافذ، لكنها ساعدتنا على الرؤية، قطع الآثاث محطمة في كل مكان وآلاف الاوراق ملقاة على الارض، قاعة القراءة، والدولاب الخشبي والقائمة التي بها أسماء جميع الكتب والرفوف المحطمة بدون رحمة، رماد، وملفات فارغة. وفي الوقت الذي كنت اكمل فيه الخطو في باحة المكتبة شعرت أن الأركان كانت تجتدي قوتها لتحمل الصدمة.
لقد نهبت الممتلكات الثقافية لهذه المكتبة، في اجواء تثير التساؤل والاستغراب.
أولا لقد كان الهجوم على بغداد، بواسطة القنابل والصواريخ التي دمرت اكثر من 200 بناية عامة وعشرات الاسواق والشركات في عملية عسكرية اسمها "الصدمة و الرعب" واستمرت طيلة الايام الاخيرة من مارس.
في الثالث من أبريل ابتدات المعارك في مطار صدام حسين على بعد عشر كيلومترات من مركز المدينة، وفي اليوم السابع وصلت الدبابات للشوارع المدينة.
في الثامن من ابريل القوات الامريكية سيطرت على مناطق معينة من بغداد ، بحكم انها مدينة واسعة جدا بالنظر الى مساحتها التي تقدر بحوالي 24 كيلو متر وتضم اكثر من 730 حي.
الهجمات لم تتوقف رغم الأخبار التي أفادت بان نظام صدام حسين قد سقط، وفر هاربا بمعية اولاده الى احد الملاجئ.
لقد كان هناك ارتباك عام ،فالقوات الامريكية من جنود وشرطة لم تكن لديهم أية أوامر صريحة بعدم اطلاق النار ضد المدنيين.
في الاربعاء 9 أبريل تم تحطيم تمثال صدام حسين في الساحة المركزية ،حينها تقدم جندي امركي وغطى وجه الثمتال بالعلم الامريكي، الا انه ثم تصحيح هذا الموقف باستبدال العلم الامريكي باخر عراقي استدراكا.....
يتبع..