تمعّن في تاريخ كلّ شعوب العالم فإنك لن تجد أصعب من العراقيين في علاقتهم بالسلطة.فتاريخهم يحدثنا بأنهم أكثر الشعوب قياما بالثورات والانتفاضات.واللافت أن جوهر المسألة لا يتعلق بظلم السلطات التي حكمتهم،بل بطبيعتهم الشخصية. فهم وصفوا بأنهم كانوا حتى قبل الإسلام:كبارا،أعزّة..يمتازون بعنفوانهم ويعتقدون برفعتهم وعلّو شأنهم..وأنهم ما استسلموا لظالم ولا انبطحوا لسلطة.ولهذا كان الخلفاء الراشدون أول الحكّام في التاريخ الإسلامي الذين فهموا سيكولوجية العراقي ،فكانوا يراعون العراقيين في التعامل ويأخذون اعتراضاتهم مأخذ الجد.
ولدى الجاحظ تفسير لطيف فيه بعد سيكولوجي للشخصية العراقية بقوله :( والعلّة في عصيان أهل العراق على الأمراء..أن أهل العراق أهل نظر وذو فطن ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء..وما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة والشقاق على أولي الرئاسة ).وروي عن معاوية أنه أوصى ابنه يزيد أن يغير الوالي عليهم إن هم لم يرضوا عنه..حتى لو تطلب الأمر إجراء ذلك كل يوم!
ومع أن الحجاج الذي حكم العراق عشرين سنة وتوعدهم بأنه يرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وانه لصاحبها،وأقسم بايم الله 'لألحونكم لحو العود ولأقرعنكم قرع المروة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرائب غرائب الإبل' ..فإنه ،مع شدّة بأسه، اعترف بأن العراقيين أتعبوه وأصلعوا رأسه :( يا أهل العراق ، أتيتكم وأنا ذو لمّة وافرة أرفل فيها ،فما زال بي شقاقكم وعصيانكم حتى حص شعري )..بل إنهم جعلوه يتمنى الموت.
لقد قلنا إن جوهر المسألة لا يتعلق بحكّام طغاة فرضوا أنفسهم على العراقيين بالقوة،ودليلنا على ذلك أنهم هم الذين جاءوا الآن بحكّام انتخبوهم ديمقراطيا،وها قد انقضى عقد من الزمن وما استقامت أمورهم..فأين هي العلة؟
السياسي العراقي مصاب بـ(تضخّم الأنا)..بمعنى أنه يرى نفسه أنه الأجدر والأحق بالقيادة.وما لا يدركه كثيرون أنه ينجم عن هذه العلّة أمراض سلوكية أخطرها (العناد العصابي)..ونعني الإصرار على الموقف حتى لو كان خاطئا..بطريقة يبدو فيها للآخرين محيّرا،وخالقا لأزمات تحدث فوضى فكرية يختلط فيها خطأ وصواب أطراف الأزمة.
إن الصراع السياسي حالة إيجابية إذا كان تنافسا بين أحزاب،كتل،مكونات..تطرح برامج تعرض على الناس لتختار الأفضل،غير أن (تضخم أنا) السياسي يجعله يفهم الصراع على أنه (أكون أو لا أكون)ويجبره على الشك المرضي بالآخر..الذي يختلف عن الشك المبرر.فأنت حين تحاول أن تثبت له بأن شكوكه غير صحيحة فإنه يبدأ بعدم الوثوق بك ويتصور أنك ضده..ولهذا فشل السياسيون العراقيون في المفاوضات،لأن التفاوض يقوم على مبدأ (التنازل)..أي أن يكون لدى كل طرف مفاوض استعداد نفسي للتنازل، وهم ما يزالون يفتقدون هذا الاستعداد، لأن تضخم الأنا عندهم صلب لا يعرف المرونة.
الأطراف السياسية الفاعلة في الساحة العراقية يتفقون على أنهم يعيشون جميعا أزمة ثقة..لكنهم لا يقتنعون بأنهم لن يستطيعوا حلّها،لسبب سيكولوجي هو أنهم يعتقدون أن سبب صعوباتهم ومشاكلهم هم الآخرون وليس أنفسهم..وتلك عللهم الجديدة.وإذا أضفت لما استجد من صفات في الزمن الديمقراطي إلى تلك التي شخّصها الجاحظ في أزمان الطغيان أدركت لماذا العراقيون هم أصعب خلق الله..والمشكلة أن من صاروا الآن في السلطة لا يعرفون كيف يتعاملون مع ذوي الطباع الصعبة، فيضطرون من حيث لا يريدون إلى استخدام أساليب كان قد استخدمها مستبدون مع شعب عدّوه مشاكسا..وينسون أن من أجمل مشاكساته أنه لن يثق ثانية بمن خذله!
مقالات اخرى للكاتب