يرى الشاعر والمترجم "سهيل نجم" أن الشعر العراقي منذ السبعينيات حاول خلخلة علاقة التابع والمتبوع بين الشعر والآيديولوجيا، فشهدنا صراعاً وصدامات لتحديد من يتبع من؟ وكانت فترة الثمانينيات فترة حاسمة في هذا الجانب استطاع فيها الشعراء حسم النتيجة للشعر ولتبقى الآيديولوجيا عنصراً لا يمكن التغاضي عنه في أي نص، ولكن مضى زمن الهيمنة الايديولوجية التي تبطش بالشعر لتجعل منه مسخاً وذليلا مسطحاً فيه من التعبوية السياسية التلقينية أكثر مما فيه من البوح الشعري الذي يغذي أعماق الإنسان ويدفعه لتأمل أخاذ في الكون والحياة.
ويؤكد نجم، في مقدمة كتابة الصادر حديثاً (القيثارة والقربان.. الشعر العراقي منذ السبعينيات وحتى اليوم) أن أغلب الشعراء العراقيين الذين جاؤوا الى الشعر منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى اليوم دفعوا أنفسهم إلى أن ينصهروا في بوتقة هذه التجربة الإبداعية، لكن نقطة الانطلاق كانت بالفعل منذ بداية الثمانينيات وربما بعد ذلك بقليل.
سهيل نجم الذي بحث في مقدمته عن الشعرية العراقية منذ السومريين وحتى يومنا هذا، وما رافقه من تحولات وانتقالات في الأغراض والاساليب والتوجهات، قدم لنا أنثولوجيا بوبها ألفبائياً هرباً من مفهوم التجييل، ولعدم إعطاء أي شاعر أولوية على شاعر آخر، وكان هذا مهرباً ذكياً، لأنه ابتعد في ذلك عن مأزق التبويب حسب الأهمية في الشعر، والاسبقية في التجييل، وهو بهذا أراد أن يقول: ان كل النصوص التي اخترتها، متساوية في الشعرية العراقية من حيث الأهمية، وليعطي القارئ حق التبويب من وجهة نظرة.
وعن كيفية اختيار النصوص والشعراء لهذه الانثولوجيا يقول نجم: "إن اختيار انثولوجيا للشعر العراقي مغامرة كبيرة، ولكن لا محيد لنا عن فعل المحاولة لتجميع هذه الأصوات المتنافرة والضاجة والمتناغمة فيما بينها في الوقت نفسه.... من خلال قراءات مطولة للعشرات من المجاميع الشعرية والنصوص المتناثرة هنا وهناك في الصحف والمجلات الورقية والألكترونية وعلى مدى سنوات تم اختيارنا لهذه النصوص من دون أن تكون بأيدينا مسطرة هندسية نعتمد عليها، بل اعتمدنا على قدرة النص في الجذب واكتنازه بالشعر".
من جانب آخر، عرض الشاعر شوقي عبد الأمير، في مقدمته للانثولوجيا، فرشة مطولة عن تاريخ الشعر في العراق، منذ السومريين، متوقفاً عند المرحلة الستينية، التي يعدها الجيل الوحيد الذي انبثق في العراق، لأن هذا الجيل فتح الطريق أمام الشعراء العراقيين والعرب لكتابة نص جديد يختلف عن كل المراحل التي مرت بها القصيدة العربية بشكل عام.
ويضيف عبد الأمير عن مرحلة ما بعد الستينيات قائلاً: "أما المرحلة التي نحن بصددها فكما هو واضح من أكثر النصوص قد طغى عليها الشعر المنثور وتضاءلت- تدريجياً- قصيدة التفعيلة؛ أي عكس الصورة الستينية.. وهذا كملمح عرضي شكلي في بناء القصيدة، لكن أهمية شعر هذه المرحلة تكمن في الانفجار التعددي لمادة القصيدة، رموزها وأشكال التعبير واللغة الجديدة التي صارت دأباً لكل شاعر يحاول أن يقدم الجديد".
ويجد عبد الأمير في الشعر العراقي الحديث ظلالاً لريتسوس وإيليوت ورامبو ووايتمان وسواهم من كبار الشعراء بالاضافة الى أصداء أدونيس ودرويش والماغوط، بل "وأكاد أقول إن ظلال الشعر الغربي أكبر وأكثر انتشاراً من آثار الشعر العربي الحديث ورموزه". مؤكداً أن "الشعر العراقي وليد أبوة القربان وأمومة القيثارة. القربان حالة تراجيدية موجودة في النص الشعري العراقي منذ آلاف السنوات ولا أدل على ذلك من ملحمة "الشعب ينوح" السومرية، وغيرها من نصوص المراثي والبكائيات التي يحفل بها الشعر السومري".
ويرى عبد الأمير أن الشعراء صاروا أجرأ في التناول وفي اللعب باللغة وكسر الحواجز والأنصاب والجمل البلاغية المعدة سلفاً. و "عرفوا عناوين جديدة وعبروا الى آفاق لم تعرفها القصيدة الستينية... كان الستينيون منشغلين بهدم الصروح الكلاسيكية، فجاء الشعراء بعدهم وقد وجدوا الطريق معبداً ليمضوا إلى أبعد وليجدوا لغتهم في أحضان آباء غرباء جدد".
الانثولوجيا التي جاءت بـ 558 من القطع الكبير وصدرت عن دار "ضفاف"، وصمم غلافها الفنان صدام الجميلي، ضمت أكثر من 96 شاعراً، نذكر منهم:
إبراهيم الخياط، أحمد عبد الحسين، باسم المرعبي، حميد قاسم، خالد المعالي، خزعل الماجدي، دنيا ميخائيل، رعد عبد القادر، رعد مطشر، زاهر الجيزاني، سلام كاظم، سهام جبار، صلاح حسن، عبد الكريم كاصد، غريب اسكندر، فارس حرّام، كاظم جهاد، كولالة نوري، محمد تركي النصار، نبيل ياسين، وغيرهم من الشعراء.