حين أحتل الاميركان العراق عام 2003 وجدوه بلدا يخلو من السياسيين. كانوا يعرفون ذلك سلفا. لم يبحثوا في المخابئ السرية للبلد عن سياسيين محليين يمكن الاعتماد عليهم في تسويق ثقافة الاحتلال، لا لأنهم لا يثقون بعراقيي الداخل (وهو أمر مؤكد) بل لأنهم كانوا شبه متأكدين من أن أحدا من عراقيي الداخل لا يتعاون معهم إلا ضمن ايقاع التفكير السياسي الذي كان سائدا حتى تلك اللحظة. وهو تفكير، بالرغم من أحاديته وعكوفه على نفسه وتحجره واستبداديته يظل على قدر كبير وشفاف من الوطنية الصريحة. وهو ما يتعارض مع ما يحتاجه الاميركان في مجال الدعاية لعراق جديد، يكون في كل وجوهه ثمرة لفكر سياسي ذرائعي، لا يرى في الاحتلال شرا، بقدر ما يسعى إلى تحصين المحتل وحمايته من أي مشروع يدعو إلى مقاومته. وهذا ما وجدته الادارة الاميركية جاهزا في طاقم سياسي حملته معها إلى العراق المحتل، بعد أن انتقت أفراده بعناية من بين المئات بل الالاف من المعارضين العراقيين الذين كانوا يقيمون في الخارج.
لقد جيء بذلك الطاقم بعد أن خضع أفراده لاختبارت عديدة، كانت الادارة الاميركية حريصة على أجرائها، بالقوة نفسها التي حرصت فيها على أن لا تتكرر فيتنام في العراق. ليس المقصود هنا الجريمة بل الهزيمة.
كان نوري المالكي واحدا من أفراد ذلك الطاقم.
وإذا ما كانت الادارة الاميركية قد فضلته على سواه من أمثال احمد الجلبي أو أياد علاوي أوابراهيم الجعفري فلأنها تدرك جيدا أنه الأكثر صلاحية لتنفيذ أجندتها على الأرض. لذلك لم تقف معرفتها بمدى ولائه لحكم ولاية الفقيه في ايران حائلا دون تقديم السند إليه، ضاربة عرض الحائط بالمستقبل السياسي لابنها البار احمد الجلبي، وهو الذي كان ولا يزال اميركيا أكثر من الاميركيين أنفسهم.
وها هو المالكي يدخل بالعراق السنة الأخيرة من ولايته الثانية، رئيسا للوزراء، من غير أن يتخطى الخط الذي رسمه بول بريمير للعراق، باعتباره أنقاض دولة، تتقافز فئران الفساد بين آثار حطامها.
لقد تعلم المالكي أن البناء الايجابي هو خط أحمر، ينبغي على من يحكم العراق عدم الاقتراب منه، لذلك لم تدفع به نزعته الطائفية إلى ارتكاب حماقة من النوع الذي يوفر الخدمات وينعش الاقتصاد وييسر سبل التنمية والرخاء في المحافظات العراقية التي تسكنها أغلبية شيعية. بل حدث العكس تماما. فقد تكون الاوضاع في بعض المحافظات التي تسكنها أغلبية سنية أحسن حالا من الاوضاع في المحافظات التي يدعي المالكي حرصه على الانتماء طائفيا إليها.
ولكن هل مشكلة العراق تكمن في المالكي، في حد ذاته؟
بعد عشر سنوات من الاحتلال لم تعد مشكلة العراق خافية على أحد. فهي تكمن في صورته المتخيلة، المرسومة من قبل دوائر القرار الاميركية والصهيونية، وهي صورة لا تسمح في أن يعود العراق بلدا مستقل الارادة، سيادته تمتد من الجغرافيا والاقتصاد إلى الفكر والثقافة والتنمية البشرية في سياق تعليم وطني حديث. العراق وفق تلك الصورة لا يتعدى كونه بئرا نفطية تذهب عائداتها إلى جيوب الشركات العالمية وحراسها المحليين.
كانت المانيا عام 1955 أي بعد مرور عشر سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية التي تركتها أرضا خاوية من غير علامات شاخصة، واحدة من أفضل الدول الاوربية في مجال التنمية والرفاهية الاجتماعية. ولم تكن اليابان يومها وهي التي ضربت أميركا في عقر دارها بأقل ازدهارا. أما العراق فلا توجد كلمة في قاموس الزراية والوضاعة والابتذال كفيلة في وصف ما انتهى إليه بعد مرور الفترة الزمنية نفسها على نهاية حربه.
أليس في هذه المقاربة شيء من الدلالة الواضحة والمؤلمة؟
مقالات اخرى للكاتب