كلما تهمّ الغيوم بمخاض جديد، أفترش حدائقي العطشى من سنين، بعد أن أدمنت القنوط واليأس والجدب والجفاف، فيحضرني لحظتها -من ضمن من يحضر- كثيرون ممن يجيدون دور النديم. بالأمس حضرني سيدي السياب.. بدر، فوجدت نفسي أحاوره مرددا ماقال:
«عيناك غابتا نخيل ساعة السَحر.. أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر»..
لكن ساعة السَحَر سويعةٌ سرعان ما انتهت، وبقيت غابات النخيل تلفحها رياح الهجير وتلفح وجهي رمال البيد، ورحت أبحث لاهثا عن شرفتين إلا أني لم أجد إلا.. خندقين في ليلة محق فيها القمر وغار في أفق بعيد.. ألبسَتْ العتمة الأضواء الراقصة وشاحا أسود فبدت كالثقوب السوداء في سراب خلته نهر.. نهر...
مجذافي هو الآخر تأصّلت جذوره في الرمال، نجومي أفلت ولم تعد تنبض، فلا ضباب ولاأسىً شفيف..
«دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء»
كلها تستغيث وابدراه
طفلك سيدي السياب لم يعد ينتشي خوف القمر..
الكروم.. لم تعد كروما.. أدغال.. كأخطبوط كممت كركرة الاطفال
العصافير.. لم تعد في وكناتها. فقد زلزلت عشها وصمْتها ألعوبةُ القدر.. قدر.. قدر
فعذرا سيدي السياب، أنشودة المطر لنا جميعا غصة ألمها، ولك وحدك غيثها وخراجها.
المساء الذي تثاءب في حضنك الرؤوم غط في سبات سرمدي بعد أن ملّ غيومه وهي تعصر السراب.
الطفل الذي هذى قبل ان ينام عادت له امه لتقبله قبلة الوداع.. وايقن كذبهم.. «حين لجّ في السؤال وقالوا له: بعد غدٍ تعود.. لابد أن تعود»
صيادك الحزين جمع الشباك، كنت تظنه يلعن المياه والقدر.. عذرا سيدي.. لم يعد له في اللعن باع، فقد عشقته الامواج وضمته مع عشيقيها الاولين في القاع، وانضم صوته مع صراخهم.. وابدراه.. وابدراه..
نم قريرا سيدي السياب.. فالتي كنت تسألها:
«أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟»
أجابت على أسئلتك الثلاث.. فقد حزنت.. ونشجت.. وضاعت.. ولم يأتها المطر بل أتاها «الدم المراق»..
والبروق التي مسحت «سواحل العراق بالنجوم والمحار»، صدئت وتساقطت كفتات نيازك عتاق..
الرعد.. لم يعد يخيف السفن والسفـّان.. زئيره بات بقايا نغمة وتر مبحوح.
«وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع.. ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع»
وصدى صيحتك: «يا خليج يا واهب المحار والردى» مازال يأتينا بنفس النشيج..
«وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة» كان لك من ألمها أمل
«وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيد» كان لك بها نشيد
«فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الوليد في عالمِ الغدِ الفتيّ واهبِ الحياة سيعشبُ العراقُ بالمطر».
كم كان أملك بالمطر عظيما سيدي! كم سنبلة ارتوت من املك! . كم غيث همى من أملك! . ولا مطر..
وأملك: «سيعشب العراق بالمطر».. مازال معلقا، فقد وقف العراق حيث وقفت.. وتجمدت الأحلام حين رحلت، وجميعنا منتظرون، لعلنا نصحو يوما على فارس أحلام شهم، نزيه، وطني، شريف، يحقق شيئا مما حلمت به.
مقالات اخرى للكاتب