الذي أعاد بناء أوربا التي دمرّتها الحرب الثانية ليست أمريكا ولا أموال مارشال , بل الذي أعاد الإعمار والبناء تلك الإرادة الصلبة والروح الوطنية العالية التي أعادت ما دمرّته الحرب , والأيادي النظيفة هي من توّلت عملية إعادة البناء , ولم تكن هذه الايادي متختمّة باليمين أو اليسار ولا أثر لسجود في جباهها , بل ولا تؤمن حتى بحياة بعد الموت , وأموال مارشال لم تصل إلى سنغافورة أو ماليزيا , البلدان اللذان انتقلا من العالم الثالث إلى العالم الأول , فحين ينتقل بلد مثل سنغافورة الخالية من الموارد الاقتصادية وتعاني من الفساد الإداري والركود الاقتصادي والبطالة وأزمة في السكن وشعب غير متجانس وينتمي إلى اعراق مختلفة , إلى واحدة من أغنى دول العالم ويقفز الناتج المحلي فيها من 2 مليار دولار عام 1960 إلى 87 مليار دولار عام 2002 , ويرتفع معدّل دخل الفرد من 435 دولار عام 1960إلى 30 ألف دولار عام 2002 , فهذه قصة نجاح ينبغي الوقوف عندها لمعرفة أسباب هذا النجاح الذي أبهر العالم , وإن كان هنالك ثمة سر في هذا النجاح فهذا السر يكمن في تلك الأيادي النظيفة التي قادت هذه النهضة العملاقة وذلك القائد التاريخي لي كوان يو الذي قاد هذه النهضة , فحين يكون عندنا قائد نظيف وسلطة تقودها أياد نظيفة كما حصل في سنغافورة وماليزيا وباقي دول جنوب شرق أسيا , عندها لن نكون بحاجة إلى مشروع مارشال ورهن إرادة بلدنا لأمريكا أو غير أمريكا .
ومشروع الأيادي النظيفة هو ما يحتاجه العراق بعد هذه التجربة المريرة التي أفرزت لنا نظاما سياسيا مشوّها وممسوخا قلّ نظيره في العالم من حيث الفساد وضياع الثروة وإهدار فرص البناء والإعمار والتقدّم , والأموال التي أضاعتها الطبقة السياسية الحاكمة تفوق أموال مارشال لإعادة بناء أوربا بأسرها بأضعاف مضاعفة , ولا زالت موارد البلد كافية لو احسنّا استغلالها بشكل صحيح , الأمر لا يحتاج إلى عناء كلّ ما نحتاجه أن نفعل كما فعل لي كوان يو في سنغافورة أو مهاتير محمد في ماليزيا , ونستخلص تجربة الشعوب التي دمرّتها الحروب كألمانيا واليابان وإيطاليا , كيف بدأت بإعمار بلدانها ؟ نحن بحاجة أن ننهض بالتعليم ثم التعليم ثم التعليم ثم القضاء المستقل , وبحاجة إلى إزاحة العمامة السياسية عن الحياة السياسية , وبحاجة إلى استبدال الطبقة السياسية الحاكمة الحالية بأخرى غير متورطة بفساد أو بهدر للمال العام , ومشروع الأيادي النظيفة قائم على استبعاد كل مسؤول في الدولة العراقية ساهم هو أو حزبه الذي ينتمي إليه في هذا الفساد والضياع والهدر في المال العام , نحن بحاجة إلى لي كوان عراقي يسير بنا كما سار لي كوان السنغافوري بشعبه , قائد نظيف يعمل للوطن فقط وليس للحزب الذي ينتمي إليه أو لحاشيته الفاسدة التي تحيط به كالذباب , كنت أعتقد أن الذي طالب أمريكا بمشروع مشابه لمشروع مارشال , هو الذي سيكون لي كوان العراق , لكنّ الرجل وللأسف الشديد حاول يسير على خطى كونفوشيوس , فأضاع نفسه واضاعنا معه , فلا اصبح لي كوان ولا كونفوشيوس .
مقالات اخرى للكاتب