في ثمانينيات القرن الماضي تم تسويقنا بعد تخرجنا في الجامعة إلى مدرسة ضباط المشاة في الموصل، كانت أياماً قاسية تلقينا فيها أتعس أساليب الإهانة والترويع والإنهاك النفسي والبدني بحجة التدريب، تعداد صباحي وهرولة ومسير وساحة عرضات وركض حول ميدان الرمي، ثم يبدأ منهج التدريب، في الأيام الأولى عانينا من تشنجات في عضلات أرجلنا، أرشدونا الجنود الذين سبقونا إلى حمام السوق، لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها الموصل، أقلتنا سيارة الأجرة عبر وادي حجر إلى منطقة قريبة من جامع النبي شيت، دلفنا إلى شارع الدواسة، حيث المقاهي ومطاعم اللحم بعجين والكبة، سألنا عن أقرب حمام عمومي، لنزيل عن أجسادنا المنهكة آلام التدريب القسري الذي لم نعتد عليه، وبرغم كل التعب منحتنا جولتنا في المدينة بعض الارتياح.
نزولنا كل اثنين وخميس إلى المدينة كان المتنفس الوحيد لنتوازن نفسياً، أجواء المدينة كانت تخفف عنا الكثير مما نعانيه، قسوة ضباط الصف ونواب الضباط والضباط وألفاظهم السوقية، وفراق الأهل والأصدقاء فضلاً عن احتدام المعارك على جبهات الحرب، الأمر الذي يزيد قلقنا ويفقدنا الشعور بالأمان، مدينة الموصل كانت عزاءنا الوحيد، حفظنا أسماء شوارعها ومطاعمها المتميزة وسينماتها ومقاهيها، في شارع الدواسة وباب الطوب وشارع حلب وشارع النجفي والسرجخانة وأحيانا نعبر للغابات، محلات المكسرات والحلويات وعصائر الزبيب، ربما أحببنا المدينة بمقدار ما كرهنا المعسكر، وأحببنا الناس في المدينة بقدر ما كرهنا الذين مسخهم الولاء للعسكرية وحولهم إلى وحوش، يضعوننا في حلبة ويدورون حولنا بعصيهم وبألفاظ نابية مقززة يأمروننا بالركض والبروك والنهوض والزحف حتى تنقطع أنفاسنا وننهار ويغمى علينا.
في هذه الأيام وأنا أتابع أخبار تحرير الساحل الأيمن أستعيد ذكرى تلك الأيام، برغم مرارتها إلا أنني أحن لشارع الدواسة الذي قضيت فيه أوقاتاً جميلة، أحن لباب الطوب والسرجخانة وجامع النبي شيت والخبز بعجين وكبة البرغل الشهيرة واللبن وعصير الزبيب والسجق والحلقوم ومن السما وحبة الخضرة والجوز وكل الأشياء الجميلة، ولطالما تساءلت مع نفسي: هل استطاعت عصابات داعش أن تمحو هوية الموصل الجميلة؟، أتساءل: هل بإمكاني زيارة الموصل والتجوال في تلك الأماكن التي خففت عنا بعض آلامنا وامتصت بعض غضبنا؟، كنا نحاول التماسك لئلا نتعرض لعقوبات لا تخطر على البال، فقد نتهم بالخيانة والتمرد ولم نكن نتحمل ذلك بما عرفناه من قسوة الأجهزة القمعية للنظام المباد.
لأسماء تلك الأماكن وقع خاص، وحين يرددها المراسلون أشعر حقاً بأن الموصل تحررت، وأن هويتها باقية بأسماء شوارعها وحاراتها ومراقدها وآثارها وأكلاتها وناسها وأزقتها، وستعود بأفضل مما كانت عليه قبل داعش، بعدما اكتشف أهلها بأن داعش خدعة آمن بها ضعاف النفوس والعصابيون والطائفيون وحاول أن يستفيد منها الانتهازيون وتجار الحروب على حساب دمائهم وأمنهم واستقرارهم وغمامة عابرة ستنقشع مثلما انقشع كل الطغاة والمستبدين.
مقالات اخرى للكاتب