في ظاهرة غير مسبوقة بدأت بعض البنوك الأوروبية بتطبيق ما يدعى بالفوائد الجزائية على عملائها. ويعني ذلك أن البنوك تطالب المودعين بدفع رسوم مقابل أموالهم المودعة. صحيح أن هذه البنوك تطبق هذه الفوائد السلبية على أصحاب الودائع الكبيرة فقط ، إلا أن هذه الممارسة تقلب قواعد اللعبة "الرأسمالية" رأسا على عقب. فقد جرت العادة أن يدفع المصرف للمدخرين فوائد مقابل وضعهم الأموال تحت تصرف المصرف الذي يقوم عادة بإقراضها إلى آخرين بفوائد أعلى. وتعد هذه القاعدة من أهم أسس النظام الرأسمالي ، خاصة وأن سعر الفائدة يعتبر أهم مؤشر للحياة الاقتصادية والذي يساهم في نهاية المطاف في تحديد الأسعار الأخرى مثل نسبة الربح وعائد الأسهم وإيجار السكن وغيرها. وهذا ما يفسر أيضا اهتمام البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم بسعر الفائدة والتي تنظر إليه بصفته أهم أدوات السياسات النقدية.
ولكن الوضع تغير جذريا مع اندلاع الأزمة المالية في عام 2007 والتي تبعتها أزمة الديون السيادية في أوروبا. ففي خضم هذه الأزمة بدأت أهم البنوك المركزية في العالم، وفي مقدمتها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي ونظيره الياباني بتخفيض سعر الفائدة. وهو إجراء تقليدي تلجأ له البنوك المركزية في مرحلة الأزمة بهدف دفع الشركات لأخذ المزيد من القروض وتوظيفها في مشاريع استثمارية جديدة وبالتالي تحفيز النمو والحد من ارتفاع معدلات البطالة.
غير أن هذه السياسة لم تقتصر على فترة محددة واستمرت البنوك المركزية في تخفيض أسعار الفائدة حتى قاربت الصفر عمليا في ظاهرة فريدة لم يشهدها النظام الرأسمالي خلال عمره الذي يمتد لمئات السنين. ولم يتوقف البنك المركزي الأوروبي برئاسة الايطالي "ماريو دراغي" عند هذا الحد ، بل وبدأ في منتصف عام 2014 بفرض فوائد جزائية على المصارف التي تودع جزءا من أموالها لدى البنك المركزي. وبرر دارغي ذلك بأنه يريد دفع البنوك لعدم الاحتفاظ بالأموال والإسراع في استثمارها وبما يحفز نمو الاقتصاد. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت بعض البنوك بتطبيق نظام الفوائد السلبية في التعاملات المالية فيما بينها. أي أن البنك الدائن يضطر لدفع فوائد للبنك المدين وليس العكس. هذا التعامل هو في حقيقة الأمر أقرب إلى الخيال وأثار استغراب الخبراء الاقتصاديين والمواطنيين العاديين على حد سواء.
واليوم جاء الدور على المودعين الخواص الذي يجدون أنفسهم مجبرين على دفع "فوائد سلبية" أي غرامات على ودائعهم الكبيرة لدى البنوك. وبطبيعة الحال أثار هذا الإجراء غضب الكثيرين والذي وصفوه بأنه هجوم على المدخرين ومحاولة سافرة لمصادرة أموالهم بدلا من مكافئتهم. وبالفعل فإن سياسة أسعار الفائدة "الصفرية" التي يتمسك بها رئيس البنك المركزي الأوروبي دراغي ستؤدي على المدى المتوسط إلى كبح عملية الادخار التي تعتبر منذ نشوء الرأسمالية أهم أساس للاستثمار وللنمو الاقتصادي. ومن هنا يمكن فهم التحذيرات التي أطلقها عدد من الخبراء الاقتصاديين والذين طالبوا البنوك المركزية بالتخلي تدريجيا عن سياسة الفائدة الصفرية وإعادة الأمور إلى سياقها الصحيح.
ويبدو أن البنك المركزي الأمريكي ( المجلس الاحتياطي الفيدرالي) استجاب لهذه الطلبات وأقدم في نهاية العام الماضي على رفع سعر الفائدة للمرة الأولى منذ 10 أعوام. صحيح أن الارتفاع بلغ 0,25% فقط، ولكنه مثلّ نقطة تحول ومؤشرا على الإنهاء التدريجي لسياسة الفائدة الصفرية في الولايات المتحدة الأمريكية. في المقابل يصر ماريو دراغي رئيس البنك المكزي الأوروبي على الإبقاء على معدل الفائدة قريبا من الصفر الأمر الذي سيعني استمرار الجدل حول هذه القضية.
ولا يستبعد أن يعتبر أنصار الاقتصاد الاسلامي تراجع أهمية اسعار الفائدة تأكيدا لوجهة نظرهم القائلة بتحريم الفائدة ونصرا للبنوك الاسلامية التي ترفض التعامل بالفائدة من الناحية الشكلية على الأقل.
مقالات اخرى للكاتب