من أمثالنا السائدة التي عادة مانستخدمها لتبيان أهمية التجربة والتمرس في شؤون الحياة، وماللعمر من دور في عمق الحنكة وسعة الحِلم وملَكة التعقل والروية هو مثلنا: (أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة). هو مثل شمولي ومجازي، إذ ليس كل كبير يكون بالضرورة هو الأفهم، وليس كل فاهم يجود بالنصح لغيره كما يقول أبو الأسود الدؤلي:
فَمـا كُـلُّ ذي لُبٍّ بِمؤتيـكَ نُصحـَهُ
وَما كُلُّ مؤتٍ نَصحَهُ بِلبيبِ
وَلَكِن إِذا ما استَجمَعا عِندَ واحِدٍ
فَحقٌّ لَـهُ مِن طاعَةٍ بِنَصيبِ
أما لو جُمع العقل والحكمة والأناة والكياسة والتجربة، فضلا عن سعة الصدر وطيب القلب في شخص واحد، فمن المؤكد ان يكون ذا رأي سديد وتقييم سليم ونظرة صائبة، إذا ما فُوِّضت اليه قضية في مجموعة أفراد أو مجاميع عدة، كان قد حصل بينهم لبس او سوء فهم اختلفوا على إثره، وباتت قضيتهم شائكة واستعصى حلها او كما نقول نحن العراقيون: (الحسبة مليوصة). وأظن ان الأخيرة لاتتحقق إلا في حال تعنت احد أطراف تلك المجاميع، وانزوائه برأي أو فكرة بزاوية الأنانية، والإنحياز لنفسه او لجهة معينة تصب في المصالح الخاصة والمآرب الشخصية فقط.
في عراقنا اليوم نحن بأمس الحاجة الى ذلك الكبير وبالمواصفات التي ذكرتها، والذي يجمع كلمتنا ويشد أزرنا ويوحد خطواتنا وتوجهاتنا، وإن وجد شخص كهذا ينبغي على الجميع الأخذ بتوجيهاته ونصائحه، واحتسابها أوامر مادامت ثقتنا بإمكاناته عالية، وأول من يحتاج شخصا كهذا هو من تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة، وأخص منهم السياسيين وقادة الكتل والأحزاب الذين يمسكون دفة الحكم، ويعتلون مناصب تحتم عليهم تقديم الأفضل والأصلح والأنفع للعراق والعراقيين. ومن المفارقات أن الأفضل في بلدنا اليوم لايمكنه التأقلم مع معيته، ذاك أنهم يتبعون المثل القائل؛ (لاأنطيك ولا اخلي رحمة الله تجيك)..! فنراهم يضعون العقبات أمام المخلص في عمله منهم. ومن المفارقات ايضا أن نجد فيهم من يأكل لحم أخيه ميتا ويتفنن بشيِّه وسلقه وقليه ويتلذذ بطعمه متبَّلا بالطائفية والعرقية والمناطقية، ونحن بأرض تشرّف ترابها بضم مراقد خير الأولياء والأوصياء، فكأننا نسينا قول الإمام علي بن أبي طالب: الناس صنفان؛ (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق). وأرانا اليوم ننهش لحم أخينا في الدين ونظيرنا في الجنس، كذلك من يشاركنا في العيش والجورة والمصير والخلق أيما نهش. ولم تنتهِ المفارقات بعد فمازال في جعبتي منها الكثير أستشفه من الأحداث اليومية التي مافتئ أخواننا في الدين ونظراؤنا في الخلق وشركاؤنا في الأرض من استحداث الغريب والعجيب منها.
قبل أيام، عقد اجتماع مجلس الوزراء بنصاب تام بعد الزوابع المروعة التي مر بها البلد، وقد تم فيه ماتم من طرح توجيهات وإصدار أوامر، لاتختلف عن باقي الجلسات، والتي من المفترض أن تكون في خدمة الصالح العام، ولو أردنا تقييم أية جلسة، فيما لو كانت ناجحة ومجدية أم غير ذلك، علينا قطعا أن نتدارس ما أنجز من تلك التوصيات والتوجيهات، ومانفذ من الأوامر الصادرة، وهل هناك متابع لما تحقق منها على أرض الواقع؟ أم أن الحبل سيبقى على غارب الإهمال والتهاون واللاأبالية، الى إشعار غير مسمى! وهل ننتظر هذا المسمى على يد انقلاب او سقوط جديد؟ أم سيتعظ ساستنا من تجربة الأسبوعين الماضيين!
مقالات اخرى للكاتب